انتخابات فرنسا المريضة
انتخابات فرنسا المريضة….. على غير عادتها، انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية باهتةً، يغلب عليها الصراع الشخصي من دون منافسة جدّية في برامج المرشّحين لحل الأزمات المستعصية، التي تغرق فيها فرنسا.
الرئيس المنتهية ولايته اتَّبَع تكتيك النأي بالنفس عن حصيلة 5 أعوام من حكم زاد التخريب والانحدار، متسلّحاً بزعامة أوروبا رأسمالاً رمزياً لدغدغة معنويات الفرنسيين بالتوق إلى عظمَة “الفتوحات” على عاتق “جوبيتير” (لقب ماكرون في فرنسا المُكنّى بإله آلهة الإغريق).
الإعلام الفرنسي، وحتى الأوروبي، تحكّم في تنظيم سوق “الترويج السياسي” وإدارتها، على خلفية مصالح مالكي الإمبراطوريات الإعلامية المتداخلة بالأوليغارشية الصناعية والتجارية والمالية في أوروبا وعبر الأطلسي.
النجم الإعلامي إيريك زِمور، سوّقه بعض الإعلام المدعوم من فئات الأوليغارشية العنصرية الجامحة إلى تفوّق العِرق الأبيض وسيطرة الاستعمار في عالم الجنوب، فصبّ ماءه في طاحونة مارين لوبان، وأثّر في استدارة “اليمين الجمهوري” (فاليري بيكريس) إلى أقصى اليمين.
التسويق الإعلامي للأطلسي على خلفية الحرب في أوكرانيا، طغى على الحملات الرئاسية والأحداث الفرنسية لترويج ماكرون وما يمثّله، على نحو غير مباشر، ومحاربة ميلنشون عبر مرشحي اليسار الأطلسي، الذين تولّوا التحريض العنصري ضد “الغافل عن جرائم حلب وكييف”، وعن “استبداد مادورو”. وفي هذا السياق، فَبْرَك الإعلام “استطلاعات الرأي” التي كشفت نتائج الانتخابات عدم صدقيتها.
أوليغارشية النموذج الأميركي
تحوّلات المنظومة الدولية نحو نموذج التوحّش الأميركي، انخرطت فيها فرنسا متأثرة ومؤثّرة، بحسب حجم شركاتها الكبرى في السوق الدولية، وترابطها مع الشركات المتعددة الجنسيات في الاتحاد الأوروبي وعبر الأطلسي.
التحوّل عن النموذج الفرنسي نحو النموذج الأميركي، أطلق له العنان نيكولا ساركوزي (2007 ــ2012)، واستكمله فرنسوا هولاند (2012 ــ2017)، اعتماداً على العقل المدبّر في وزارة الاقتصاد والمالية، إيمانويل ماكرون، خرّيج مدرسة روتشيلد المالية، بالتناغم مع لوبيات المفوضية الأوروبية الراعية لمصالح شركات الاتحاد.
ما يشيعه سياسيو مصالح الشركات الكبرى وأتباعها وموظفوها من الخبراء و”الكفاءات”، بأن حريّة التجارة والسوق والاستثمار الأجنبي تتغلّب في عظمتها التلقائية على الاقتصاد المتوازن غير النيوليبرالي، هو تضليل محض لتعظيم مصالح اقتصاد الغابة ودكتاتورية الطغمة المالية.
سيادة اقتصاد التوحّش مرهونة بحمل سياسيّيه إلى سلطة الحكم ومحاربة خصومه، كما تجري الحال في فرنسا، عبر دعم ماكرون ولوبان ومحاربة ميلنشون، وكما جرى في بلدان عالم الجنوب والدول الشرقية في إثر الثورات الملوّنة والثورات المضادة لتفكيك الاتحاد السوفياتي.
فاقَمَ ماكرون تسلّط الرساميل الكبرى على القطاعات الحكومية والعمومية، وفق نسق النموذج الأميركي، الذي تسيطر لوبياته على كل مناحي الاقتصاد ونشاطات الحياة.
وبأكثر من خدمة مصالح اللوبيات في أميركا، سلّم الحكم الفرنسي ثروات متراكمة في القطاع العام الإنتاجي والخدمي، إلى نهب أصحاب المال في البورصات والتجارة… و”شجّعهم على الاستثمار” بمعونات سخيّة من الميزانية العامة “من أجل الصالح العام”، في المرافق الاجتماعية والقطاعات الاستراتيجية، وعبر افتعال الحروب في أفريقيا واليمن لتنشيط أرباح شركات السلاح.
تلاشي الأحزاب والنقابات
التحوّل الفرنسي إلى النموذج الأميركي سبّب انقلاب النموذج الديموقراطي (الجمهورية) في داخل فرنسا، إلى الديموقراطية الأميركية في التنافس على السلطة بين حزبين تتداخل فيهما مصالح اللوبيات وزبائنية السلطتين التنفيذية والتشريعية.
اضمحلال الدولة الراعية لمصلحة الأوليغارشية، نسف حيادية الدولة بين القوى الاجتماعية المتضاربة المصالح، وقضى على دورها في إدارة التوازنات الداخلية الاجتماعية والسياسية، لكنه قضى على مبرّر وجود الأحزاب والنقابات التي تعبّر عن تعدّد المصالح والطموحات والرؤى.
وجود نقابات قويّة وروابط مهنية، ألغت السلطة الفرنسية مبرّره، عبر انحياز الدولة إلى خصوم التنظيمات النقابية والمهنية. ولم تعد هذه التنظيمات محمية بدور الدولة الحيادي للمحافظة على المكاسب والحقوق الاجتماعية.
لم تعد النقابات قوى اجتماعية في مقابل قوى اجتماعية أخرى من أرباب العمل وأصحاب الرساميل، بحيث تحرص مؤسسات الدولة على تنظيم التوازنات فيما بينها، بل أصبحت في مقابل أجهزة الدولة التي “جرى إصلاحها الهيكلي” من أجل تمكين تسلّط الرساميل الكبرى وسيادتها.
الأحزاب، التي تعبّر تنظيماتها عن حساسيات سياسية متباينة بشأن التنافس على السلطة، فقدت بدورها مبرّر تعدّدها حين باتت سياسات سلطة الحكم نمطيّة أحادية، ترسم معالمها وتحدّدها أجهزة الاتحاد الأوروبي ومؤسسات “المنظومة الدولية” لمصلحة اللوبيات الكبرى والأوليغارشية العالمية.
الحزب الاشتراكي الفرنسي وأحزاب اليمين والوسط، لم تعد تفرّقها، بعضها عن بعض، اختلافات المصالح والرؤى وتعدّد التوجهات السياسية، بل بات يجمعها جامع النمط الأحادي ويلبي مصالح مجموعاتها المتعدّدة في منظومة حكم الأوليغارشية، بإدارة عرّابه ماكرون.
الجاليات العربية والإسلامية، المهدَّدة بأبشع اضطهاد عنصري من اليمين والوسط واليمين المتطرّف، يجمع مسؤولي جمعياتها الدينية أيضاً جامعٌ مشترك مع حكم الأوليغارشية بتوجيه وضغط سياسيَّين وماليَّين من رعاة هذه الجمعيات التابعة لسياسات تركيا والسعودية وقطر والإخوان المسلمين والمغرب والجزائر…
5 ملايين ناخب فرنسي من أصول عربية وإسلامية، يمكنهم تغيير المعادلات السياسية وترجيح كفّة الريادة لحماية الحقوق، إذا لم تأخذهم الجمعيات الدينية رهائن مصالحها الضيّقة، وتجعلهم أضاحي سياسات الدول الراعية، بالتناغم أو بالتنافر، مع الأوليغارشية الفرنسية.
بينما بلغت نسبة التغيّب في فرنسا حدود 28%، تجاوزت في أحياء الهجرة نسبة 50%، ولم يؤيد ميلنشون أكثر من نصف المقترعين، أغلبيتهم شابة تحت عمر 35 عاماً، ترفض الخضوع لأَسر الجمعيات والاضطهاد، عنصرياً واجتماعياً.
الرئاسة ليست آخر المطاف
شكلان من التوحّش يتنافسان على سدّة الرئاسة في مجتمع مكسور ومحبَط ومُشرذَم، تتحكّم فيه أوليغارشية السلطة وزبائنية نمط الغابة، المتداخلتان بلوبيات الاتحاد الأوروبي وعبر الأطلسي.
لا تتباين سياسات مارين لوبان عن سياسات ماكرون في حكم الأوليغارشية ونظام الغابة، سوى في أحلام العظمة الفرنسية الغابرة، والتي تتوهّم لوبان نفخها لتقوية عضلات الشركات الفرنسية ولوبيات المال والأعمال بين نظرائها الأوروبيين والدوليين. فالزرازير لمّا قام قائمها توهّمت أنها صارت شواهينا.
الأوليغارشية السياسية والاقتصادية الفرنسية، هي كما الأوليغارشية الأوروبية واللوبيات الأميركية، تستمد ثقافتها ورؤاها من إرث استعماري طويل، أساسه الأيديولوجي اعتقاد خرافي بتفوّق العِرق الأبيض وحضارته وحداثته واقتصاده وديموقراطيته… إلخ.
في فرنسا يعود هذا الإرث إلى تحرّر الجزائر من الاستيطان الفرنسي، الذي ولّد جرحاً غائراً لا يزال ينزف قيحاً يلطّخ عنجهية الاستعمار الفرنسي، ويُلهب الحنين إلى الشوفينية الاستعمارية.
قسم من الأوليغارشية نفسها، يدفعه الحنين الاستعماري في الجزائر وأفريقيا والهند ــ الصينية، إلى الانضواء في لوبيات الاتحاد الأوروبي وأميركا، بحسب حجمه من دون تخرّصات، في جامع مشترك نحو الجموح إلى تفوّق العنصرية البيضاء على مستوى صراع الغرب ضد الشرق، ومن ورائه عالم الجنوب، من أجل سيطرة ضفتي الأطلسي على العالم.
موازين القوى في معادلات الأوليغارشية الفرنسية، تميل قليلاً لمصلحة ماكرون الذي يمثّل الوجهة العنصرية الأطلسية الأعمّ والأشمل، إذا نجح في تقديم بعض التنازلات في برنامج ميلنشون لاستمالة نصف ناخبي فرنسا غير الخاضعة.
ومن غير المتوقع انتهاء الأزمات الفرنسية المستعصية بانتخاب ماكرون أو لوبان، بل ربما تستفحل الأزمات وتتوسّع الشرذَمة ويتفاقم الانحلال. فنتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة، قد تفرض مساكنة رئاسة الجمهورية مع رئاسة حكومية من لون سياسي مغاير، وقد تفرض تخبّطاً وشللاً، وقد تؤدي إلى توترات عنف واهتراء سياسي … إلخ.
اليسار الأطلسي فوّت الفرصة على ميلنشون لتغيير المعادلات والمنظومة، بحفنة من الأصوات التي حجبَها بعض التحريض اليساري المشبوه. لكن 7,5 ملايين من الواعدين بعالم متحرّر من غابة التوحّش، أشبه بنذير في غمّة الأنواء، مبشّراً بطلوع فجر جديد.