تواجه الولايات المتحدة انتفاضات طلابية لا تدور حول التكاليف الجامعية أو حول تحسين جامعي أو تعديل طفيف في المناهج، إنما حول علاقة المال الذي تحظى به الجامعة بالشركات التي تعاون “إسرائيل” على فعل الإبادة.
“تظاهرات طلابية ضخمة مطلع أيار/مايو. احتلَّت الشرطة الفرنسية الحي اللاتيني في باريس، وامتدت الاحتجاجات الطلابية خلال أيام قليلة إلى المصانع ومواقع العمل من كل نوع. في بعض الحالات، كان هذا الانتشار عفوياً. وفي أحيانٍ أخرى، أدرك الطلبة الذين أوقفوا العمل فعلياً في الجامعات أنهم بلا حول ما لم تتم إعادة إنتاج أفعالهم عبر كل مجالات الحياة الاجتماعية، فطلبوا الدعم من العمال، وهذا ما حدث في إضراب 13 مايو الذي شلّ فرنسا تماماً”.
هذا ليس خبراً حديثاً عن السوربون أو غيرها من الجامعات الفرنسية التي تحرّك طلابها مؤخراً دعماً لغرة، ولكنه من الأرشيف المكتوب لثورة الطلبة في فرنسا عام 1968م؛ من نصوص سادي بلات في كتاب “راية التمرد”.
هي جولة من الأحداث التي هزّت الإمبراطورية المستقيلة قبل عقود، أحداث وصفتها الأوبزرفر على طريقتها الخاصة: “هجوم شامل على المجتمع الصناعي الحديث”!
الطلبة الذين خرجوا في شوارع فرنسا، وأشعلوا الإضرابات العامة، صوَّبوا غضبهم تجاه ما سموه البيروقراطية الرأسمالية، ولم يروا في آراء اليسار التقليدي آنذاك ما يروق لهم، لا في آراء هنري لوفيفر، ولا في برنامج الحزب الشيوعي الفرنسي. استمالتهم أكثر آراء “الأممية المواقفية” وكتابات منظّر اليسار الراديكالي ورائد مدرسة فرانكفورت الألماني هربرت ماركوزه.
لم يكن لهؤلاء الطلبة مطلب محدد أو حتى لائحة مطالب. كانت غايتهم تفكيك النظام القائم وإعادة تشكيله من جديد، ابتداء من إدارة شركة الطيران الفرنسية، مروراً بكنس الثقافة الرديئة والمسرح الفاشل والموسيقى المملة، وانتهاء بإعادة صياغة النظام النفسي للمجتمع، ليكون فيه الإنسان أقل اغتراباً.
ومع أنّ تلك الانتفاضة بقيت إلى يومنا هذا محطّ جدل وانتقاد حول طبيعة قياداتها وعدد من الشخصيات التي اعتلت منصّاتها، أو حول مصيرها النهائي بإعادة إنتاج حكومة موالية لشارل ديغول الذي ترنّح مع عنفوانها، أو باعتبارها ثورة مضادة أدارها الأميركيون ضد ديغول؛ ومع كل تلك الافتراضات والجدالات، إلا أن هذه الانتفاضة احتفظت برونق خاص عنوانه طبيعة الشعارات الراديكالية الكارهة لإصلاح جسد الإمبراطورية المكسورة في مستعمراتها السابقة والمغادرة لدور الكبار في النظام الدولي.
في شيخوخة مماثلة، وبجرعة راديكالية أقلّ، تواجه الولايات المتحدة انتفاضات طلابية لا تدور حول التكاليف الجامعية أو حول تحسين جامعي أو تعديل طفيف في المناهج، إنما حول علاقة المال الذي تحظى به الجامعة بالشركات التي تعاون “إسرائيل” على فعل الإبادة.
في الولايات المتحدة، تُبنى شبكة العلاقات بين المؤسسات بطريقة تجعل من فكرة الثورة الشاملة مهمة صعبة وغارقة في التمحيص والتنقيب، والجامعات ليست بعيدة عن الشبكة العنكبوتية للدولة العميقة في الولايات المتحدة، فهي أولاً جزء من الروافد المالية للاستثمار في الشركات، ومنها شركات السلاح (تبلغ القيمة السوقية للجامعات الأميركية 972 مليار دولار)، وهي ثانياً مختبر واسع لبرامج البحث والتطوير مع مختلف الشركات التكنولوجية وشركات السلاح أيضاً، حتى إن الأطروحات الأكاديمية التي تقوم بها الجامعات في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية وتقدّم المنح المالية لإنجازها هي جزء من بنك البيانات الذي تعمل الولايات المتحدة على دراسته والاستفادة منه بالشراكة مع بنوك التفكير – think Tanks (شكّلت الأبحاث 17% من واردات جامعة هارفرد المالية للسنة المالية 2022-2023)، وهي ثالثاً جزء من أدوات الدعاية للنموذج الأميركي في العالم، مع حفاظها على صورة حرية البحث والتفكير.
ومع أن فلسفة الانتفاضة الطلابية في الولايات المتحدة أقل اتساعاً من نظيرتها الفرنسية التي سبقتها بما يزيد على نصف قرن، إلا أنها تتقاطع معها في:
- 1. قابلية اتساع الحركة خارج الإطار الطلابي، وصولاً إلى عدد من الحركات الأخرى، مثل حركة العائلات العاملة وحياة السود.
- 2. تجاوز الأطروحات الإصلاحية التقليدية، بما في ذلك الجناح “التقدمي” في الحزب الديمقراطي.
- 3. انخراط الشخصيات الأكاديمية والفلسفية في الميدان، وإمكانية تأثير أدبياتها في أوساط الطلبة وغيرهم من فئات المجتمع الأميركي، ولا سيما مع تعرضهم شخصياً للاعتقال والتضييق.
وحدها الحركات الطلابية تحمل الخيال الجامح للتغيير، بعيداً من البنود التفصيلية في البرامج السياسية للأحزاب المتحفظة أو المترددة. الولايات المتحدة نفسها شهدت، في أكثر مناسبة، دعوات “غريبة” لاحتجاجات طلابية؛ كأن تدعو الطلبة إلى الاعتصام أمام كليات الاقتصاد، كليات الاقتصاد فقط، لأنها هي التي تساهم في تخريج مديري الشركات الاحتكارية ومصمّمي المضاربات في عالم وول ستريت.
ما بين انتفاضتين طلابيتين، الفرنسية 1968 والأميركية 2024، تبدو الشعارات متسقة مع قوة الدماء في عروق طالب عشريني يريد تغيير العالم، ويكره حلول الترقيع تحت شعار “الإصلاح”، ويهوى التفكيك وإعادة البناء، ويدمن الثورة الشاملة. ودون ذلك، تكون الكهولة المبكرة!
الميادين نت