انهيار “إسرائيل” من الداخل: الفرضية والاحتمالات
لمناقشة الفرضية والاحتمالات ، لا بدّ من محاولة اكتشاف ما تعانيه “إسرائيل” داخلياً من مشكلات، وإذا كانت ستؤدي فعلاً إلى انهيارها.
يطرح عدد من المفكّرين والكُتّاب والسياسيين، مسألةَ انهيار “إسرائيل” من الداخل. وأنّ لا حاجة إلى تكبُّدها هزيمةً عسكرية من الخارج، لأنّ ما تعانيه من مشكلات داخلية، سواء اجتماعية أو عقائدية أو ديمغرافية. بالإضافة إلى التطورات المتلاحقة، وخصوصاً منذ حرب تموز/يوليو 2006. والتي ساهمت في تراجع قناعة الإسرائيليين بأن لديهم الجيش الأقوى في العالم. بحيث باتوا أقل تفاؤلاً وأكثر خوفاً، وتراجعت ثقتهم بجيشهم الذي “كان لا يُقهَر”.. هذه العوامل وغيرها، جعلت البعض يعتقد أن “إسرائيل” قد تنهار من الداخل، الأمر الذي يؤسس واقعاً جديداً في المنطقة.
لمناقشة هذه الفرضية، لا بدّ من محاولة اكتشاف ما تعانيه “إسرائيل” داخلياً من مشكلات. وإذا كانت ستؤدي فعلاً إلى انهيارها من الداخل.
تعاني “إسرائيل”، ككيان استيطاني، عدةَ مشكلات، قد يكون أبرزها ما يلي:
أولاً، الانقسامات الدينية والمجتمعية والعِرقية
تؤدّي الديمغرافيا عاملاً حاسماً في الانقسامات الداخلية. فالعنصرية التي يعانيها الفلسطينيون العرب داخلَ “إسرائيل”. لا يَسْلَم منها اليهود أنفسهم، وخصوصاً أولئك القادمين من دول أفريقيا ومن دول العالم الثالث. أو أولئك الملوَّنين من اليهود، والذين يُعتبرون مواطنين أقلَّ شأناً من اليهود القادمين من أوروبا وأميركا، وأصحاب البشرة البيضاء.
إن الأصول المتباينة للسكان اليهود تجعل كلَّ يهودي مختلفاً عن اليهودي الآخر بقدر اختلافه عن العربي. فتتعدَّد الثقافات والممارسات والطقوس الدينية، على نحوٍ يجعل “اليهودية” أقربَ إلى أن تكون مزيجاً من العقائد بدلاً من أن تكون عقيدة واحدة.
وفي ظل انتشار الفساد والزبائنية والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وسيطرة اليمين الشعبوي على السلطة والمجتمع في “إسرائيل”، يشعر عدد من الإسرائيليين بانعدام الفرص، وانعدام الأمن والرغبة في الهجرة.
كما تتقلَّص مساحة الحرية والتعبير عن الرأي وحرية المعتقد، ويسود اعتقاد مفاده أن اليهود المتديِّنين يستغلّون “الدولة”.
ثانياً، تراجع شعور الافتخار الوطني
ارتبطت فكرة “الدفاع المقدَّس” عن الأرض بـ”عَظَمَة الجيش الإسرائيلي” لدى المهاجرين الأوائل. ولهذا، كان الجيش يخرّج النخبة السياسية. فالخدمة العسكرية كانت السبيل إلى النخبة والارتقاء السياسي.
في بدايات تأسيس الكيان، كان التطوّع في صفوف قوات النخبة يُعتبر من الأعمال المرموقة. لكنّ الوضع تغيّر بصورة كبيرة، وبات التذرّع بالعقيدة الدينية إحدى أبرز الذرائع للتهرُّب من الخدمة العسكرية.
لا يعتبر رفض الخدمة في الجيش، أو التهرُّب منها، ظاهرةً جديدة في “إسرائيل”. فلقد ارتفعت نسبة مَن لا يخدمون فيه في الأعوام الأربعين الفائتة على نحو متسارع. وبينما بلغت عام 1980 قرابة 12%، ارتفعت إلى 32% عام 2020.
التهرّب من الخدمة العسكرية ليس بسيطاً في مجتمع كـ”المجتمع الإسرائيلي”. فبغضّ النظر عن الأسباب التي تُعطى لهذا العزوف عن التجنيد، فإن النتائج كارثية ببساطة. لأن “إسرائيل” أُنشئت على فكرتَي القوة والأمن، وأن “الجيش هو الدولة”. وأن الحرب التي يخوضها هؤلاء هي “دفاعٌ عن النفس” (لذلك، سمّي “جيش الدفاع الإسرائيلي”).
ثالثاً، تَأَكُّل الأيديولوجية الصهيونية: “ما بعد الصهيونية” في مقابل “الصهيونية الجديدة“
“الصهيونية الجديدة” هي أيديولوجية متطرِّفة، يمينياً وقومياً ودينياً. ظهرت في “إسرائيل” بعد حرب الأيام الستة عام 1967. يعتبر “الصهاينة الجدد” أن التنازل عن الأرض هو خطيئة كبرى. ويجب القيام بالاستيطان واحتلال جميع الأراضي الفلسطينية. تمهيداً للوصول إلى “إسرائيل الكبرى”.
ويعرّف عالم الاجتماع، أوري رام، مصطلح “الصهيونية الجديدة” بأنه “توجُّه سياسي ثقافي إقصائي، قومي، بل عنصري، ومُعادٍ للديمقراطية” في “إسرائيل”.
دخل مصطلح “ما بعد الصهيونية” الخطابَ الإسرائيلي بعد نشر كتاب أوري رام عام 1993. وهو مصطلح يؤمن أصحابه بأن الصهيونية قامت بما عليها من تأسيس “دولة إسرائيل”. وبالتالي، ما بعد الصهيونية يجب أن يشهد تأسيس “دولة ديمقراطية”، متسائلين عن جدوى أن تكون “إسرائيل” دولة يهودية بدلاً من أن تصبح دولة لكل مواطنيها.
وينتقدون السياسات العنصرية التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية. والتشجيعَ والدعمَ اللَّذَين يلقاهما المستوطنون الذين، في رأي هؤلاء، يضرّون “إسرائيل” وسمعتها الدولية، كدولة فصل عنصري.
هذه المشكلات وغيرها، هل يمكن أن تؤدي إلى انهيار “إسرائيل” من الداخل؟
إن الجيوب الاستيطانية، والتي يتم غرسها عادة في البلاد المحتلة أو المستعمَرة. تحتاج دائماً إلى قوة عاتية لتُبقيَها في قيد الحياة.
وظاهرة الاستعمار الاستيطاني ليست جديدة، فلقد مارسها الأوروبيون خلال التنافس الاستعماري في ما بينهم، وخصوصاً خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وبهدف تصريف الفائض البشري في أوروبا، واختراق السكان الأصليين للسيطرة على الأرض المحتلة. قامت الجيوش الأوروبية، خلال فترة الاستعمار، بتطبيق سياسة الاستعمار الاستيطاني (تحقّق الجيوش الأوروبية السيطرة العسكرية على بلد ما، ثم تقوم بتوطين السكان الأوروبيين فيه).
وعلى الرَّغم من اختلاف الاستعمار التقليدي عن الاستعمار الاستيطاني. فإنَّ الشكلين ترافقا خلال تلك الفترة، فشكّلا وحدة متكاملة من السياسات الاستعمارية الأوروبية.
الجيوش تحمي المستوطن
الجيوش تحمي المستوطن، والمستوطن يشكّل قاعدة سكانية للجيوش، ويؤمّن لها ظهيراً يخترق مجموعات السكان الأصلية، وينهي تمرّدها أو يقضي عليها.
من هنا، نفهم كيف أن الشعوب الغربية، بصورة عامة، لا تجد في احتلال فلسطين من جانب المستوطنين اليهود، وطرد الفلسطينيين منها وإبادتهم، أمراً مشِيناً ومثيراً للإدانة.
فهذا بالضبط ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية، حين وصل المستوطنون الأوروبيون إلى تلك البلاد، وطردوا السكان الأصليين منها وأبادوهم.
“إسرائيل” لا تختلف عن هذا النمط الاستعماري، الذي تمّ تأسيسه ليَحلّ المسألة اليهودية التي كانت تؤرّق أوروبا، فتمّ التخلص من المشكلة الأوروبية الداخلية بتصديرها إلى الشرق الأوسط.
وكانت المعادلة التالية: يشكّل هذا الكيان الاستيطاني قاعدةً متقدمة للمصالح الغربية في الشرق، في مقابل أن يقدِّم إليه الغرب الدعم، مالياً وعسكرياً. وكلَّ مقوِّمات القوة للمحافظة على نفسه. معادلة “رابح – رابح”، والخاسر هم أهل الأرض الأصليون.
من هنا، نفهم الهواجس الأمنية الدائمة لدى المجتمع اليهودي في “إسرائيل”، إذ إن كل نزعة استيطانية تحتاج إلى أن تفرض نفسها بقوة السلاح على الآخرين.
ويدرك الإسرائيليون تماماً أن المستوطن الإسرائيلي لن يقدر على البقاء والاستمرار من دون الدعم الغربي، وخصوصاً الأميركي. وبما أنه نشأ، أساساً، كدولة وظيفية للدفاع عن المصالح الغربية في المنطقة. فإن تحوّله إلى عبء على داعميه، وفقدانَه الدور الوظيفي المنوط به، سيقلّصان حوافز استمرار الدعم، وخصوصاً الدعم الحالي واللامحدود واللامشروط.
وعليه، إنّ مقوّمات صمود “المجتمع الإسرائيلي” لا تنبع من الداخل بل من الخارج. فهو مدعوم، مالياً وعسكرياً وسياسياً، من الولايات المتحدة والغرب.
لذا، فإن انهياره من الداخل يحتاج إلى تخلي الولايات المتحدة عنه، إمّا بسبب انشغالها الداخلي بذاتها. وإمّا بسبب تمرُّد الإسرائيليين عليها، وإمّا لسبب من الأسباب الأُخرى، التي قد لا تكون منظورة للعيان اليوم.