باحث مصري يؤكد أن سعدالله ونوس مثقف استثنائي ومبدع من طراز خاص
لماذا المسرح؟ ولماذا سعدالله ونوس؟ بهذين التساؤلين افتتح الناقد د. رضا عطية اسكندر كتابه “مسرح سعدالله ونوس.. قراءة سيميولوجية”، مؤكدا أن المسرح هو أبو الفنون وأقدم الآداب، هو ديوان العالم القديم وشعره. قديما كان المسرح هو بيت الأسطورة، ومأوى الفلسفة التي تفسر الوجود، وبمرور الوقت استقل الشعر عن المسرح وظهرت الرواية باعتبارها ديوان العصر الحديث وشعر اليومي الأيديولوجي، ومع ذلك بقي المسرح إلى جوار تلك الفنون ينشد شعرية جديدة وأسطورية معاصرة، لذا تبقى للمسرح ضرورته التاريخية الممتدة وقيمته الجمالية المتجددة، فالمسرح حالة حوار، مفاوضات تجري بين الخشبة والنظارة والممثلين والجمهور، جدل قائم، حجاج دائر.
أما عن سعدالله ونوس فقال د. رضا عطية أنه مثقف استثنائي ومبدع من طراز خاص “إذ يمثل نموذجا ناصعا للمثقف العضوي الذي عمل بقدر مسعاه إلى إبداع أدب يتسم بالثورية والتجديد، مسرح يطمح إلى إعادة تعريف مفهوم المسرح، مسرح يجدد في قواعد المسرح ويحدث في شروطه وإجراءاته ـ بقدر ما سعى ـ أيضا إلى تثوير جمهور المسرح والمتلقي، قرر سعدالله ونوس أن يقف في مواجهة السلطة لا بمفهومها السياسي فحسب المتمثل في السلطة الحاكمة، بل كل سلطة تفرضها قوى أو جماعات أو معتقدات، كسلطة رأس المال وكذلك سلطة الدين أو بالأحرى السلطة الكهنوتية التي ينزعها البعض لنفسه تمتعا بحصانة الدين وعصمة الكهنوت، وكالسلطة الأبوية التي تفرض وصاية بطريركية على الأجيال الصاعدة، وكالسلطة الذكورية التي تنزع المرأة حقوقها وتهدر مكتسباتها وتنفي حقها في المساواة بالرجل في الامتيازات والحقوق، وقد تفطن ونوس إلى تلك الوشائج الضامة لمختلف أنواع الاستبداد الذي تمارسه هذه السلطات المتشابكة فيما بينها”.
سعى د. رضا عطية في مقارباته التطبيقية التي اعتمد فيها منهج التحليل السيميولوجي إلى محاولة الربط بين الشخوص وجلاء ما بينهم من تماثلات وما يفرقهم من تمايزات وتقابلات، سواء في النص الواحد أو عديد من النصوص، وبيان ما تحمله الشخوص من أنظمة علامات وما تمثله من وجوه أيقونية دالة على معان ورموز، ثم كان السعي لاكتشاف ملامح الشخصية الجمعية التي قد تطرحها النصوص عبر بعض الشخوص كأفراد، كما تعني السيميولوجيا بجلاء دور المجموعات، أو الكورس كعلامات من الشخوص تشكل دوال تفضي إلى مدلولات.
ورأى أن تجربة ونوس مرت بثلاث مراحل مفصلية كبرى، هي البدايات التي اتسمت بكلاسيكية القالب مع أمشاج من الذهنية والعبثية، ثم المرحلة الوسطى بعد عودته من فرنسا واطلاعه على المسرح البريختي بما فيه من تغريب، وكانت المرحلة الثالثة والأخيرة حيث مواجهة البحث في الأسئلة الوجودية الكبرى.
خصص د. رضا عطية مدخله لإطلالة عابرة في أعمال سعدالله ونوس المسرحية، معرفا بمراحل تجربته الثلاث مع بيان سمات كل مرحلة وما قد بدا فيها من تطور على مسرحه، مع تناول مكثف للرؤى التي تطرحها كل مسرحية. أما الفصول الأربعة للكتاب فحلل في كل فصل نصا مسرحيا، الأول مسرحية “ماسأة بائع الدبس الفقير”، والثاني مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، والثالث مسرحية “الملك هو الملك” والرابع مسرحية “الأيام المخمورة”.
في تحليله لنص “مأساة بائع الدبس” رأى أن أهم أسئلة المسرح في أعمال سعدالله ونوس الأولى كان يدور حول علاقة السلطة بالمواطن، غير أن تناول ونوس لهذه الإشكالية كان يتوسل بالرمز ويتدثر بالأسطورة، كانت صياغاته وأجوبته في مسرحياته الأولى تحاول أن تمرر الرؤى السياسية لما هو آني ـ حينها ـ عبر منافذ الأسطوري، فمزجت ما هو عصري بما هو تاريخي، فألبست مسائل العصر حللا تاريخية، وارتدت وجوه النقد الموجهة للسلطة أقنعة الأسطورة، لا سيما الإغريقية، فزاوجت مأساة إنسان العصر بمآسي الأساطير القديمة، كما اتخذت مسرحيات ونوس الأولى ومنها “مأساة بائع الدبس الفقير” قالبا أقرب إلى القالب الأرسطي القديم، وإن أمدت التراجيديا بتيارات عبثية ليتشابك ما هو درامي بما هو وجودي، في فترة شهدت مدا جارفا للفلسفة الوجودية التي اجتاحت أمواجها شواطئ الفكر الفلسفي والإبداع الجمالي على السواء.
وأضاف “من العنوان تبدو شعاب فضاءاته التي يرمي النص أن يصطحبنا فيها، وإذا كان جاك دريدا يرى بأن العنوان يعلو النص ويمنحه النور اللازم لتتبعه”، فالعنوان هنا يكشف عن جنس الكتابة المسرحية والقالب الدرامي للنص وهو المأساة، كما يحدد بطلها وهو “بائع الدبس الفقير”، ولما كانت المأساة كما في المسرح الإغريقي القديم تتناول عذابات البشر ومكابداتهم في انغماسهم في لجة صراع قوى الخير في مواجهة الشر، كذلك ألاعيب القدر ومواجهات البشر بوصفهم قوى أرضية مع الآلهة بوصفها قوى عليا سماوية.
إن شخصية البطل لهذه المأساة يحدده العنوان بأنه بائع الدبس الفقير، فمسألة تعريف المضاف إليه الدبس ليكون المركب الإضافي “بائع الدبس” يمنح بطل تلك المأساة رحابة كينونية، فهو أنموذج عام لبائع الدبس، أما نعته بالفقير، فيضيف لصفته المهنية بعدا طبقيا اقتصاديا، فهو وإن كان من الطبقة المنتجة العاملة غير أنه فقير، وهو ما يشي بأزمة ذات بعدين مزدوجين، أزمة اقتصادية تتمثل فيما يلازم البائع من فقر، وأزمة اجتماعية تنبثق من البحث عن أسباب هذا الفقر الذي يعكس أوضاعا متردية بالمجتمع”.
ورأى رضا عطية في تحليله لمسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” أن هذه المسرحية مثلت تعديلا للمسار الذي اتخذه ونوس في سابق مسرحياته، مرتادا بذلك أرضا جديدة لم يسبق أن وطئها لينصب فيها خيمة تجريبه الطليعي، منقلبا على شكل مسرحي يراه لم يعد مناسبا لظروف راهنة ـ وقتها على صعيد سياسي وكذلك صعيد التلقي”.
وأشار إلى أنه مع عودة ونوس من رحلته إلى فرنسا التي أطلع فيها على المسرح البريختي وعلى تجارب مسرحية طليعية، وأيضا مع تجرعه ـ والشعب العربي ـ مرارة الهزيمة المؤلمة في يونيو/حزيران 1967، أدرك ونوس بحس فني ووعي ناضج لزوم أن يعيد حساباته بخصوص المسرح، حلمه ونافذته التي يتمكن عبرها من رؤية العالم، ويمرر من خلالها تصوراته لهذا العالم.
لقد أخذته نداهة التغيير، ليس ترفا جماليا أو نزقا تجريبيا مفرغا من غرض فني، وإنما استجابة لحاجات ملحة وقضايا مستجدة لم يعد المسرح بشكله التقليدي وأبنيته الكلاسيكية قادرا على التعاطي معها، فقد وعي ونوس ضرورة أن يقف موقفا أيديولوجيا حازما وواضحا من أزمة المسرح العربي باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الثقافة العربية المتسمة بالتهميش وفقدان المنهج.
ولفت إلى أن الغرض الجديد لونوس والذي انطلق مع هذه المسرحية أن يكون المسرح أكثر من لعبة مسلية أو فرجة للجماهير، أن يصير المسرح محرضا على الثورة، ومحركا لعجلة التغيير، أن يصبح المسرح مقرونا بالفعل الجماهيري، وكأن الفعل الثوري لجمهور المسرح هو المعادلة الجديدة لفعل التطهير بصفته غرضا من المسرح ونتيجة متوخاة كمظهر للإشباع النفسي الذي ينجم عن العملية المسرحية.
وأكد عطية أن مسرحية “الملك هو الملك” والتي جاءت بعد فترة صمت لونوس عن الكتابة استمرت ما يقرب من خمس سنوات، “تمثل خلاصة أفكار ونوس في مرحلته الثانية من الكتابة المسرحية التي بدأت بـ “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لتوجز أساليب السلطان الحاكم من أجل الحفاظ على سلطانه وصون حكمه، مهما تبدل الجالسون على سدة الحكم، وتلك الفكرة تدور في فلك فكرته الأعم وهاجسه الدائم وهو لعبة السلطة والمواطن، فكأن ونوس يقلب فكرته على مختلف وجوهها ويفحصها من زواياها المتعددة.
وكدأبه المنقب في التاريخ والتراث يستلهم ونوس مسرحيته هذه “الملك هو الملك” من مسرحية “أبو الحسن المغفل” لمارون نقاش، الذي استلهمها بدوره من إحدى حكايات “ليالي ألف ليلة وليلة” وهي “حكاية النائم واليقظان” والتي تتماس في عنوانها أيضا مع مسرحية لبريخت بعنوان “الرجل هو الرجل” رغم مدافعة ونوس لهذا الرأي على الأقل ثمة تماثل تركيبي في العنوان، فالملك هو الملك لا يتغير مهما تغير الشخص الحاكم، وكأن الملك أو السلطة تنمط من يتولاها أيا كان.
أما مسرحية “الأيام المخمورة” فرأي د. رضا عطية أنها تعمل على مطارحة هموم أفراد ومعاينة مأساة وطن إزاء تحديات سياسية وأخلاقية واجتماعية تعصف بسفينة هويتهم وتهدد الوجود الفردي والجماعي للإنسان أمام رياح الفساد العاتية التي تعمل على خلخلة ثوابت القيم وإبدال مستقرات الأعراف مما يخضع القيم لعملية إعادة تقييم ويضع الضمائر محل اختبار وتمسي العزائم في امتحان، قياسا لصلابتها وتماسكها فيما تجابه من تحديات وتمسكها بما تؤمن به من قناعات أمام ضغوطات الحاجة ونقائص العوز وإغراءات الفساد.
وقال إن “الأيام المخمورة” عصارة فكر ونوس وتكثف خلاصة تجربته ولتحمل كثيرا من همومه وتبرز هواجسه سواء على مستوى إنساني وجودي أو وطني قومي، إنه نص يعبر عن صيرورة كاتب كبير تنامت رؤاه وتكاملت صياغاته الفلسفية التي تستوعب عالمه الملئ بالفساد والزيف، عالمنا المحفوف بالمعاناة والألم”.
وخلص د. رضا عطية إلى أن تجربة ونوس المسرحية تمثل متنوعا من الرؤى التي تتكامل فيما بينها لتشكل أيديولوجية عامة تطارح قضايا الوجود والواقع المعاش، كما أنها تتسم بالتراكم الكمي والكيفي فكثيرا ما يعيد ونوس قضايا سبق تناولها ولكن من منظور آخر جديد بما يؤكد على رؤيته السابقة وكذلك يضيف لها أبعادا جديدة.
وقال “كان حضور التسييس في مسرح ونوس بما ينمي وعي الجمهور ويحرضه على الفعل السياسي، في المجتمعات العربية التي انصرفت شعوبها يأسا وخوفا من المشاركة السياسية التي تجلب عليهم القمع والانتهاك”.
ميدل ايست أونلاين