بعد سنوات من المجد.. هل “ماتت” الدراما السورية؟
لطالما عُرِفَت الدراما السورية بأنها مرآة للواقع. وتُعالِج قضايا المجتمع والاقتصاد والسياسة. في السنوات الأخيرة تناولت موضوعة الحرب بشكلٍ مباشر أو كخلفيّةٍ للأحداث.إلى جانب طرحها لموضوعة انعكاس الخراب النفسي والاجتماعي. لا سيما المُتعلّق بالأسرة السورية، اللبنة الاجتماعية الأساسية.
أما هذا الموسم فغابت كل تلك الأمور. في مقابل تعويم العلاقة مع الواقع بأشكالٍ مختلفة.
فهل تستوي الدراما السورية من دون علاقتها مع الواقع؟ ولماذا هذا الابتعاد عن الدراما الاجتماعية المُعاصِرَة هذا العام في مقابل التركيز على الفانتازيا والتاريخ وتعويم الهوية الدرامية؟
وهل الانفصال عن الواقع يُعلن موت الدراما السورية سريرياً بعد سنوات من المجد؟
حول هذه الأسئلة إليكم هذا التحقيق.
يرى الناقِد يزن الداهوك في حديث مع الميادين الثقافية أنه لا يمكن لشيء أن يستوي أو أن يكون فعّالاً من دون علاقته بالواقع. خاصة ما يتعلّق بأكثر المواضيع حميميةً وإنسانيةً كالفن عموماً والدراما خصوصاً.
قائلاً: “الدراما السورية شهدت لها سنوات مضت قدرَتَها على احتواء الواقع، وطرح الأسئلة الاجتماعية الأكثر حقيقية وضرورة، على عكس يومنا هذا. ما سَبَّبَ ابتعاد جمهورِها عنها، خاصةً بعد ارتفاع مستوى ذائقته إثر إفساح الإنترنت إمكانية الوصول إلى إيّ إنتاجٍ درامي عالمي، وتالياً إدراك المُتلقّين معايير الجودة لأيّ عملٍ درامي تلفزيوني”.
موضِحاً أن “سرّ الابتعاد الحقيقي لا علاقة له بذاك الجنوح نحو الدراما الغربية، ففي ذات الوقت الذي لجأ فيه المُتلقّي السوري لمشاهدة “game of thrones، breaking bad، see، black mirror، peaky blinders” أعاد أيضاً مُشاهدة مسلسل “أحلام كبيرة” و”الفصول الأربعة” لحاتم علي، ومُشاهدة “الانتظار” لليّث حجو، وغيرهما.
لأن تلك الأعمال، خاطبت ببساطة الإنسان فينا. لكن بات لدى أغلبية المشاهدين إحساس يتخلّص بمقولة “هذا المسلسل لا يُشبهنا”. أي أن الابتعاد ليس وليد اختلاف آلية التلقّي عند الجمهور السوري. وإنما وليد خَلَل ضمن حرفة صناعة الدراما التلفزيونية السورية في يومنا هذا، انطلاقاً من النصّ مروراً بالإخراج وجودة الأداء والإنتاج”.
ويتساءل خرّيج قسم النقد من المعهد العالي للفنون المسرحية المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق أنه إن كان الكاتب والمخرج والمنتج والممثلون سوريين. ولهجة العمل سورية، وأماكن التصوير في سوريا.
إذاً ما الذي يشعرنا بأن العمل لا يشبهنا؟ هل ذلك يتعلّق بالهَمّ، المقولة، والهوية؟ أو هل تاه الكتّاب السوريون عن هموم الشعب، وأضاعوا بوصلة هوية الدراما السورية؟
يُجيب الداهوك عن هذا السؤال بالقول إنه “لا يمكن لكاتب سوري أن يتيه عن همّ الشعب.
لأنه من المُفتّرض أنه يعيش الظروف ذاتها. ويعاني الهموم عينها. فالهمّ والمشاكل والطموحات واضحة وليست بحاجة لعملية بحث معقّدة لإيجادها. وإن كانت الرقابة تحدُّ قليلاً وتؤطّر من خيال الكاتب، إلا أنني أجزم بأنها ليست السبب الرئيس، لأننا استطعنا سابقاً إنتاج أعمال فنية عظيمة بذات قوانين رقابة اليوم.
الإنتاج سبب مهم ومؤثر ضمن العملية الفنية
ومما لا شك فيه أن الإنتاج سبب مهم ومؤثر ضمن العملية الفنية، بكونه يمتلك صفّارة انطلاق خروج النصّ من الحيّز المكتوب إلى الحيّز المرئي. ورغم تحمُّله جزءاً من المسؤولية في تدهور الدراما السورية كونه يحذف ويُضيف ما يشاء.
ويتعامل مع نصّ الكاتب كتعامُل المالك مع ملكه، ويفرض على الكُتَّاب ما يريد من مواضيع وأفكار، لكن بالنهاية المُنتج تاجر يهمّه بالدرجة الأولى الربحّ.
والربح بالدراما يأتي من ارتفاع نِسَب المُشاهَدة التي ترافق العمل الأكثر صدقاً وضرورة، فمن المؤكّد أن المُنتج لا يرفض نصّاً درامياً مُتقناً وصادقاً، ليس لنبالته، وإنما لسعيه للربح الأكبر.
ثم إذا ساءلنا ذائِقة الجمهور، فهل بالفعل هي مَن فرضت هذا المستوى من الانحدار والانحطاط في الطرح الدرامي وفق تبرير صُنَّاع الأعمال المُبتذلة بأن “الشعب هيك بَدُّو” “وحابب يتسلّى”؟
فإنني مُتَيَقِّن بأن الترفيه والتسلية شرطان أساسيان في العمل الفنيّ. إلا أنني متأكّد أيضاً بأنهما لا ينفصلان عن الهموم والواقعّ. لأن الترفيه والتسلية لشعبٍ ما تنشآن من همومه وواقعه، كما أن الترفيه والتسلية ليستا مرادفتان للانحطاط والانحدار والابتذال؟”.
من جانبه، يرجّح السيناريست خلدون قتلان أن “التيه الحاصل” في الدراما “ناتج من ضياع مفهوم “الفرجة” بشكلها العام، التي ابتدأت بالمسرح اليوناني وانتهت بـــ (نيتفليكس) وأشباهها”ّ. ويضيف أنه في مختلف الأشكال الفنية من مسرح وتلفزيون وصندوق الدنيا وخيال الظلّ وأيضاً في حكايات الجدّات وغيرهاّ.
تتم “إعادة إنتاج صورة غير فوتوكوبيّة عن الواقع المُعاش، كل منها وفق كيفيّة خاصة به تميّزه عن غيره”ّ. لكن ما وقعت به الدراما التلفزيونية السورية، بحسب رأيه، هو أنها أضاعت تلك الكيفيّة الخاصة بها.
يقول قتلان: “وصلت الدراما السورية إلى مجدها، بعدما نجحت في الخروج من الإطار العام للدراما المصرية التي تعتمد على البطل الواحد، مُحقّقةً بطولات جماعية، وأعمالاً تحمل قِيَماً عظيمة. فكرية وترفيهية، تثقيفية وتنويرية، لأن القائمين عليها كانوا يدركون معنى الدراما وخصوصيّتها.
وأن لها دور رئيس في تشكيل الوعي عند الجمهور، لكن ما حصل في سنوات الحرب هو إعادة مفهوم النجم الواحد إلى الواجهة، وبات كل شيء يُصنَع لصالحه وفق رغبة المُنتج. ومع أن هذا لا يُسْقِط الدراما، لكن تمّ الترويج له بطريقةٍ خاطئةٍ. وبات الاعتماد على عدد المُشاهدات. والتقييم على أساس التريندات.
بمعنى أن قيمة الفرجة تغيَّرت، وتمّ أخذها إلى منطقة أخرى. وهو ما دفع الجمهور مع ظهور الأعمال الرديئة للبحث عن فرجته الخاصة التي تمتّعه، فالفرجة عندما تبتعد عن جمهورها ستخسر ماضيها ومستقبلها ولن تقوم لها قائمة”.
“المصيبة” الأخرى، بحسب قتلان. هي “غياب المشروع الدرامي. وما رافقه من ظهور “المُستَكْتِب الدرامي” بدل السيناريست، وواضع حركات الكاميرا وتقطيعات المشاهد محلّ المخرج، وأيضاً المؤدّي بدل الممثل. والتاجر مكان المُنتج، ما جعلنا أمام كارثة حقيقية”.
لكن مع ذلك فإن كاتب “بواب الريح” ما زال يُقرّ بأن “الدراما السورية بخير، لكن صنّاعها الحقيقين غائبون”. مُرجعاً السبب الرئيس في ذلك لكون رأسمال المال الإنتاجي إما جاهل، أو مُحاط بالـ”كولكجية” وأنصاف المواهب. وهو ما يستتبع أن “تصبح صناعة الثقافة الدرامية بأيدي أناس غير مُثقّفين. والأنكى أنهم يساهمون ببناء الوعي الجَمْعي في الوطن العربي، طبعاً الوعي الزائِف. وتالياً ما يقدّمونه ليس إلا الانهيار والانهزام.
وليس هناك مَن يردعهم، فلا مُدافعين عن صناعة الوعي في سوريا، لأن الدولة غائبة. وثمة غياب كامل لدور وزارتيّ الثقافة والإعلام. في حين أنه لو أعطي المُثقّفون دورهم الحقيقي في صناعة الدراما السورية فإنهم سيأخذون المجتمع إلى أماكن غاية في النُبل، لكن ماذا نفعل إن كانت ثقافتنا ما زالت مُصِرَّة على إبقاء بيت أبو خليل القباني مُهدَّماً؟”.
يعتقد السيناريست والناقد شادي كيوان أن الدراما السورية وعلاقتها مع الواقع. ليست من ضمنْ الأسئلة والمعايير التي تُقيِّم جودة عملٍ درامي ما من عدمها، وبرأيه لا يمكن أن نتحدثَ عن الدراما السورية كأنها حال فنية مستقلّة بحد ذاتها. فهي بالضرورة تتأثّر بالتطوّر الفني للدراما في العالم. وبناءً عليه “تبقى دراما الواقع مُجرّد نوع له شريحة جمهور تميلُ له، لكن هناكَ أنواعٌ أخرى تسبقها من حيث الأهميّة وشريحة مُتابعيها الأوسع، كدراما الحروب التي تحتل المرتبة الأولى وبعدها تأتي دراما الأكشن والجريمة”.
يقول كيوان في تصريح للميادين الثقافية “أنا من أنصار نظرية غابرييل غارسيا ماركيز القائلة بأن المُشاهِد لا يحتاج إلى رؤية دراما يتابع فيها مآسيهِ وانتقاص حقوقهِ وعلاقته السيّئة بالسلطة، إنه يعرف كل هذا ويعاني منه يومياً، إنما هو بحاجة إلى فنٍ جديد فيه تحريض وتوعية، لذا لست من أنصار دراما الواقع”.
أما عن أسباب الابتعاد عن الدراما الاجتماعية المُعاصرة في مقابل التركيز على الفانتازيا والتاريخ وتعويم الهوية الدرامية في هذا العام. فيوضح كاتب مسلسل “أزمة عائلية” والمُشارِك في كتابة “مقابلة مع السيّد آدم” أن ذلك مرتبط بجانب تسويقي. وهو ما قد يسبّب تعويم الهوية الدرامية، لأنه لا علاقة له أبداً بالشرط الفني والسوية، بل مرتبط بأجندة المحطّة العارِضة. أو أجندة المُنتج ذاته، وحسابات الربح والخسارة لديهما. خصوصاً حين لا يكونُ لدينا محطات سورية والتي من الطبيعي أن تكونَ المهتمّ الأول بعرض هذا النوع.
أما الشق الثاني فهو فني بحت، والذي يمكن أن يصف ابتعاد بعض الصنّاع عن دراما الواقع بالطبيعي جداً.
يبرّر كيوان ذلك بأن “هذه الصناعة هي فن الابتكار، وتخضعُ لميولِ الكاتب أو المخرج باتجاهِ نوعٍ ما دوناً عن بقية الأنواع وهذا مشروع جداً. والأمثلة كثيرة في العالم: أغاثا كريستي تميلُ للكتابةِ في الرواية البوليسية. دان براون وبول سوسمان عشّاق الغموض. وهناك مَن يحب دراما الواقع ويميلُ إليها دوناً عن غيرها. وأيضاً الأمثلة كثيرة ومهمة. لكن يبقى المعيار هو مدى أهميّة المشروع وجودته. وهل يحقّق عنصر الجَذْب والمتابعة والتشويق وكل المعايير الأخرى. بغضّ النظر عن نوعه؟.
ويُضيف كيوان إن “الدراما السورية لم تنفصل عن الواقع برأيي. إنما تعيش مخاضاً بين هويّتها وبينَ ما يحدثُ من تطوّرٍ في العالم على مستوى هذه الصناعة. لكن حتى يخرجَ هذا المخاضُ بنتائحَ غير مشوّهة يجبُ أن يكونَ مدروساً ويهتمُ بالمشروعُ وسويّتهِ أولاً وأخيراً مهما كان نوعه. فالدراما في العالم اليوم تجدُ طريقها إلى الجمهور بأسهل الطُرُق.
وبالتالي إن لم نستطع أن نقدّم له دراما تليق فنياً على الأقل بالمستويات التي يتابعها فسيهجر الدراما السورية مهما كان نوعها. ويذهب ليتابع أعمالاً أخرى تحقّق له شرط المتعة الذي يعتبرُ الأهم. فأمام عدم المتعة تسقط كل المقولات والأنواع”.
الناقِد الدرامي أمين حمادة
من جهته، يؤكّد الناقِد الدرامي أمين حمادة للميادين الثقافية بأن الدراما السورية تميّزت عبر التصاقها بالواقع.
وبكونها انعكاساً لمختلف شرائح المجتمع السوري أياً كان مستواها الثقافي والاجتماعي والمالي والطبقي والجغرافي. وذلك ابتداءً من النصّ وصولاً إلى التنفيذ الإخراجي ومواقع التصوير التي تعكس دقّة الحيّز المكاني درامياً.
وبرأيه أنه هنا بالتحديد تكمن بصمتها، من خلال صوغ الواقع فنياً، من دون إغفال الألوان الدرامية الأخرى.
مُعتبراً أنه بعيداً من التصاقها الواقعي ببيئتها تفقد هويّتها التي حقّقت انتشارها ونجاحها.
مُضيفاً أنه “من الطبيعي ألا يكون لازماً بقاؤها في هذه الخانة، بشرط أن تشكّل هوية أخرى لائقة تحقّق مستوى الأصالة، لا مسوخاً درامية أو دراما هجينة”.
حمادة نوّه إلى أن “كل دراما باختلاف نوعها، أصلها واقع ما. نحن هنا نتحدّث عن الدراما الواقعية بمعنى ما يُشبهنا بأبيضنا وأسودنا ولا يُشعرنا بالغربة أمامه”.
ويُعلِّل حمادة ما وصلت إليه الدراما السورية من غُربتها بالحرب وآثارها. مُبيناً أننا “لم نعد للأسف في زمن المشروع الفني. بل في زمن المُنتج السريع الترفيهي الحَصْري القائم على الصورة قبل المعنى. على المباشر قبل الرمز. على أحمر الشفاه قبل الكلمة”، مُضيفاً “نحن نعلم أن التلفزيون جهاز ترفيهي ولا نتوقّع منه أكثر من حجمه، لكن التوازن في المعادلة بين المضمون والأسلوب.
يحقّق المتعة المُفيدة بكافة الدرجات. بدلاً من المتعة الفارِغة التي سادت عندما أصبح التفاعُل عبر شبكات التواصُل الاجتماعي معياراً. بفضل جيوش وَهْمية كحقيقة مَن تبرزهم. وحتى الذهاب إلى التاريخ أو الفانتيازيا أصبح تَرَفاً لا يحقّقه إلا التوجّه السياسي وأجندات تستطيع الأنظمة تمويلها بعيداً من حسابات الربح والخسارة المادية، بحيث لم يمر أيّ عمل فانتازي أو تاريخي في السنوات الأخيرة إلا بأولوية سياسية تضع الفن في المستوى الأخير”.