بعد عام على الحرب في أوكرانيا: ما هي وجهة “إسرائيل”؟
انطوت ذكرى مرور عام على الحرب في أوكرانيا، والتي صادفت مؤخراً، على أكثر من مؤشر على أن “إسرائيل” على أعتاب التخلّي، ولو بصورة جزئية، عن الموقف الذي اتسمت به حتى الآن، ويتظاهر بـ”عدم اتخاذ موقف” إلى جانب طرف من الأطراف، أو “الحياد”، والذي يبدو أنها التزمته في ضوء وجود علاقات وثيقة بروسيا تدّعي أنها تصبّ في المحافظة على “المصالح الإسرائيلية” في سوريا وضدّ إيران، إلى ناحية الاستمرار في مواجهة ما تسميه “التموضع العسكري الإيراني” في منطقة “الحدود” الشمالية، سواء في الجولان المحتل أو في لبنان.
مهما تكن هذه المؤشرات، فمن أبرزها قيام وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، يوم 16 شباط/فبراير 2023، بأول زيارة لمسؤول إسرائيلي “رفيع المستوى” لأوكرانيا، منذ اندلاع الحرب، وتأكيده خلالها أن “إسرائيل متمسكة بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها”، كما أعاد فتح السفارة الإسرائيلية في كييف، والتي كانت أُغلقت بسبب الحرب.
وعلى هامش هذه الزيارة، أشارت تحليلات إسرائيلية إلى أن “إسرائيل” تعتقد أن أوكرانيا باتت، في الوقت الحالي، دولة مؤثرة في الحلبة السياسية الدولية. لذا، فهي تُوْلي أهمية كبيرة لتجنيدها ضد إيران، عبر ادّعاء أن للدولتين “عدواً مشتركاً”. كذلك، أُفيدَ بأن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهو من أصل يهودي، طالب بأن تزوّد “إسرائيل” أوكرانيا بوسائل عسكرية دفاعية، ولم يرفض كوهين ذلك، لكنه قال لزيلينسكي: “إن إسرائيل موجودة في وضع معقد، وهي ليست البرتغال أو كندا. ولدينا حدود مشتركة مع روسيا [في سوريا]، ويوجد لدينا التهديد الإيراني”، في إشارة إلى الغارات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا.
في إثر زيارة كوهين هذه، وفيما يمكن اعتباره مؤشراً ثانياً على ما سبق ذكره من تغيير في الموقف الإسرائيلي، قال الرئيس الأوكراني، خلال مؤتمر ميونيخ الأمني (يوم 17 شباط/فبراير 2023)، إن حصول أوكرانيا على منظومة إسرائيلية لاعتراض الصواريخ هو مسألة وقت فحسب، وذلك من أجل استخدامها ضد روسيا. وكانت هذه من المرات النادرة التي يتجنب فيها الإعراب عن أسفه من جراء ما يصفه بأنه نقص المساعدة من “إسرائيل” خلال الحرب في بلاده.
قبل هذين المؤشرين، أرجعت أغلبية التحليلات في “إسرائيل” سبب تردّد هذه الأخيرة في بيع أسلحة متطورة لكييف إلى أن هذه الشحنات قد تُلحق أضراراً بعلاقاتها الدبلوماسية بموسكو، وبأوضاع الجالية اليهودية الكبيرة في روسيا. ومع أن “إسرائيل” دانت الحرب، وقالت إنها بمثابة “غزو روسي لأوكرانيا”، إلّا أن مساعداتها لكييف اقتصرت على معونات إنسانية ومعدات حماية.
كما أنه، منذ أن عاد رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى سدّة الحكم في كانون الأول/ديسمبر 2022، يتواتر الحديث عن مراجعة السياسة الإسرائيلية بشأن الحرب في أوكرانيا، لكن من دون توقعات كبيرة تتمثّل بأن يتم تقديم أسلحة إلى كييف. وسُرِّب أن “مجلس الأمن القومي الإسرائيلي” يفحص سياسة “إسرائيل” تجاه المسألة، ناهيك بأن رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينيت، صرّح بأن “سياسة الوقوف موقف المتفرج”، والتي قادها خلال ولايته القصيرة (والمستوحاة من السياسة التي صاغها نتنياهو منذ عام 2015)، كانت لها إنجازات، لكن في الفترة الزمنية الراهنة من المهم التفكير في تغييرها.
ويؤكد دعاة المحافظة على السياسة الحالية أن هناك اعتبارين لذلك: الأول، المصلحة الإسرائيلية في الحؤول دون نشوب أزمات كبيرة مع روسيا. فبعد مرور عام على الحرب، من الواضح أن روسيا لا تزال لاعباً مؤثراً في منطقة الشرق الأوسط، وهي توطّد علاقاتها بإيران وتركيا ودول الخليج. ولا تنوي روسيا إخراج قواتها من سوريا، وهي تحتفظ بقدرة إيذاء حيال “إسرائيل”.
أمّا الاعتبار الثاني، فيكمن في أن “إسرائيل” فريدة في نوعها مقارنةً بالأغلبية المطلقة من دول الغرب، فهي ليست عضواً في أي حلف عسكري رسمي، وتدافع عن مصالحها بنفسها. وتعدُّد الصراعات المتفجرة وعدم الاستقرار المستمر في “الساحة الإسرائيلية الداخلية” يفرضان عليها تجنُّب خلق عداوات جديدة.
في المقابل، يطرح المطالبون بتغيير السياسة الحالية عدة اعتبارات، أبرزها ما يلي:
أولاً، حاجة “إسرائيل” إلى دعم الولايات المتحدة ودول الغرب في مواجهة إيران، التي تزحف إلى عتبة النووي. وبلغة أحد الخبراء الأمنيين الإسرائيليين المختصين بالشأن الروسي، فإن “القدرة على مطالبة الأميركيين والغرب بالانخراط في مواجهة التحدي الأهم، والأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى إسرائيل، تتطلب أن تبدو هذه الأخيرة منخرطة في التحدي الأمني المُلحّ بالنسبة إلى الغرب، روسياً”.
ثانياً، نظراً إلى أن جدول الأعمال بين “إسرائيل” والغرب سيشهد، في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، والمؤلفة من اليمين المتطرّف القوميّ والدينيّ، فمن الأفضل ألّا يُضاف إليها الخلاف بشأن الموقف من الحرب في أوكرانيا.
إلى أن تنجلي صورة الوضع على نحو أكثر وضوحاً، نعيد التذكير بأنه على الرغم من أن “إسرائيل” تبدو، في موقفها بشأن الحرب في أوكرانيا، كما لو أنها “لاعبٌ حرٌّ” في اختيار سياسة معينة من عدم الانحياز، وكذلك في تغييرها وتبديلها أحياناً، فإن نظرةً عن قرب تُظهر أن هذه السياسة تتشكّل بناءً على المنفعة التي تعود على “دولة” الاحتلال، سواءٌ في الأفق المنظور أو البعيد.
وما يمكن قوله، بعد مرور عام على تلك الحرب، هو أن ثمة منافع لها سنتوقف عند بعضها، من دون أن يعني هذا أن الأمور ستبقى منحصرة في الفرص، ولن تترتب عليها خسائر.
لعل أُولى المنافع، الواضحة منذ الآن، هي ازدياد الطلب، ولا سيما من أوروبا، على إنتاج الصناعات الأمنية الإسرائيلية، سواء الحكومية أو الخاصة. وبحسب تقارير في صحيفة “ذي ماركر” الاقتصادية الإسرائيلية، فإن تلك الصناعات موجودة في الوقت الحالي في حالة نشوة، استمدت بدايةً من مسارعة المستشار الألماني، أولاف شولتس، بالتزامن تقريباً مع قيامه بزيارة خاطفة لـ”إسرائيل”، إلى الإعلان أن بلاده ستخصّص لمرة واحدة مبلغ 100 مليار يورو من ميزانية عام 2022 لزيادة قوة الجيش الألماني، وأن ميزانية الدفاع الألمانية سترتفع بصورة دائمة لتصل إلى 2% من الناتج المحلي، واقترح تثبيت هذا الالتزام في الدستور الألماني.
ووفقاً لما يقوله المسؤولون في الصناعات الأمنية الإسرائيلية، فإن حجم الطلبات الواردة إلى هذه الصناعات في الفترة الأخيرة جنونيّ، ومن كل أوروبا، وهو في الأساس من الدول المجاورة لروسيا أو المحاذية لساحة الحرب، مثل هنغاريا وبلغاريا وتشيكيا ورومانيا وسلوفاكيا والسويد، وهي معنية بأن تتزوّد فوراً بطائرات مُسيّرة، وأنظمة قتال إلكترونية، وأنظمة سيطرة ورقابة، وأنظمة اتصالات وتسليح.
استناداً إلى ما يؤكده مصدر رفيع المستوى في الصناعات الأمنية الإسرائيلية، يدرك الأوروبيون، بعد الحرب الراهنة، أن مصدر الخطر تغيّر. وإذا كانت تقديراتهم في السابق تفيد بأن التهديد الأمني الأكثر خطراً من الصين، ولم يحسبوا حساب روسيا، فهم باتوا يدركون الآن أن التهديد هو من الصين وروسيا، وربما من التضافر بين كلتيهما، بحيث إن كل ما حدث في أوكرانيا بدأ بعد اللقاء بين بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، ومنذ ذلك الوقت تجدّد التوتر على خلفية تهديد الصين لتايوان. وعلى حدّ قوله، فإن مجرّد هذا أوجد أمام “إسرائيل” وصناعاتها الأمنية فرصاً لم يكن لها مثيل من قبل، والإمكانات المستقبلية جنونية أكثر.
من نافل القول إن “إسرائيل” لا تنظر إلى هذه المسألة من الزاوية الاقتصادية فقط، على ما فيها من أهمية، وإنما أيضاً من زاوية اكتساب شركاء في طريقها، سياسياً، حيال قضية فلسطين، وعلى مستوى الإقليم، كما هي حال وجهة نظرها من وراء صفقات التجارة الأمنية مع الأنظمة الظلامية في أرجاء العالم.
المنفعة الثانية هي تدفق هجرة اليهود من أوكرانيا وروسيا وأوروبا. ونعيد إلى الأذهان هنا أن “إسرائيل” تَعُدّ المسألة الديموغرافية مجال اهتمام يحظى بأهمية من الدرجة الأولى بالنسبة إلى أمنها القومي. وهي تنتهج في السياق الديمغرافي وسائل متعددة تحت غطاء المحافظة على أمنها القومي، ومنها ما يلي:
أولاً، سنّ قوانين وأنظمة لضمان طابعها اليهودي، في مقدمها “قانون العودة” و”قانون المواطنة” و”قانون القومية”.
ثانياً، تطبيق سياسة صارمة فيما يتعلق بتأشيرات الدخول لـ “الدولة” بإشراف سلطة السكان والهجرة والأجهزة الأمنية.
ثالثاً، إنشاء جدران عازلة، أبرزها جدار الفصل مع أراضي الضفة الغربية.
رابعاً، توثيق العلاقات بالجاليات اليهودية في العالم، وتشجيع هجرة اليهود إلى “إسرائيل”.
وفي سبيل ذلك، لديها وزارتان: وزارة الهجرة والاستيعاب، ووزارة شؤون الشتات، بالإضافة إلى نشاط الوكالة اليهودية. تُضاف إلى ذلك حقيقة، مفادها أن الميزان الديمغرافي بين اليهود والفلسطينيين يبقى، من ناحية “إسرائيل”، ذا تأثير كبير في مسألة الحدود الدائمة لـ”دولة” الاحتلال، سواءٌ في سياق المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في جوهر الخطاب السياسي الإسرائيلي، المُوجَّه إلى العالم.