
في الحلقة الأولى، من هذه السلسلة، عرضنا مجموعة وثائق شملت تقارير أمنية سرية فرنسية، حول صفقات ومحاولات شراء الأراضي الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي في بلاد الشام لليهود. وفي هذه الحلقة، تتمة لما سبق. المعلومات الواردة في هذه التقارير مصدرها مخبرون كانوا على الأرض، منتشرون في القرى والمدن. بعضها قد يكون مجرد إشاعات، إذ لم يتم التحقق من صحتها. إلا أن غالبيتها بصورة عامة موثوقة.
تؤكد هذه التقارير أن هناك إصراراً يهودياً على الاستيطان في شتى مناطق سوريا، وبصورة خاصة في جنوب لبنان. وإذا أردنا اليوم المقارنة بين المحاولات الصهيونية للتوسع شمالاً خلال القرن الماضي وبين محاولاتهم اليوم، لجعل كل لبنان تحت سيطرتهم، يتضح أن الثابت في الإستراتيجية الصهيونية ليس فقط تجريد المواطنين في جنوب الليطاني من أي سلاح، مع ما يرافق ذلك من تهديم للقرى وإحراق للأرض ومنع السكان من إعمار قراهم المدمرة والعودة إليها، بل إن الهدف الإستراتيجي الأول في هذه المرحلة، هو السيطرة على جنوب الليطاني ثم التقدّم لاحقاً نحو جنوب صيدا.
هذه الأهداف الصهيونية، هي من الثوابت في العقل الصهيوني، وكان ديفيد بن غوريون بعد حرب 1948 قد أعلن أن ما ندم عليه خلال تلك الحرب هو عدم الاستيلاء على جنوب الليطاني ودمشق. واليوم تم دفع بعض اللبنانيين للركض وراء الأوهام، والتصوير لهم بأن كل مشكلاتهم تنحصر في موضوع واحد، هو تجريد المقاومين اللبنانيين من سلاحهم. ولا غرابة في أن تتجاهل السلطة الحالية الخطر الوجودي على الأرض والمياه، والطاقة في لبنان، بل تتجه طوعياً في اتجاه معاكس، فهذا شرط لوجودها. إذ إنه من دون تنفيذ ما تعهدت به من نزع سلاح المقاومة، لن تبقى يوماً واحداً في السلطة. من هبط بها على الكراسي سيقتلعها في حال أخلّت بوعودها له.
المسألة ليست على الإطلاق السلاح، بل التمدد المتوقع لإسرائيل في الأرض اللبنانية من دون أي رادع، والسلاح الوحيد الذي يرفعه أهل السلطة، هو التوسل والتملق للأميركيين وحلفائهم من الأنظمة العربية المتحالفة مع إسرائيل، والذي أثبتت الوقائع في فلسطين والشام، أن سياسة توسيع حدود الاستيطان لا تراجع عنها، ويؤيدها الغرب وحلفاؤه.
الأهداف الصهيونية، هي من الثوابت في العقل الصهيوني، وكان ديفيد بن غوريون بعد حرب 1948 قد أعلن أن ما ندم عليه خلال تلك الحرب هو عدم الاستيلاء على جنوب الليطاني ودمشق
وعندما نتمعّن في نماذج التقارير الأمنية الفرنسية أدناه يتأكد لنا التالي:
1- إن السماسرة والمتحمسين لعقد الصفقات وبيع الأراضي، من سياسيين ومحامين ورجال إقطاع وغيرهم، ينتمون إلى طوائف متعددة، توحدوا على هدف واحد، هو الاستفادة من الأموال الصهيونية الضخمة المخصصة للاستحواذ على الأراضي. واليوم يتكرر المشهد، يتوحدون مقابل بقائهم في السلطة، ويرتضون أن يكونوا أدوات للعمل على سحق من قاوم الاحتلال عام 1982، وطرده عام 2000، وهزمه مجدداً عام 2006.
2- ركّزت الشركات الصهيونية وبصورة خاصة «كيرين كميت» (الصندوق القومي اليهودي) على شراء الأراضي في المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا وفلسطين، تحديداً شراء المناطق الإستراتيجية والخصبة، مثل أراضي سهل الحولة التي تعود ملكيتها بمعظمها إلى سوريين ولبنانيين. وقد تعددت أساليب شراء الأراضي كما تُظهر الوثائق.
3- الآن، وبعد نحو قرن، يتضح لنا أن المحتلين الفرنسيين كانوا حريصين على عدم السماح للصهاينة بالتغلغل والاستيطان في بلاد الشام، لخشيتهم من خسارة المزيد من أراضي سيطرتهم، في حين أن محامين وإقطاعيين وسياسيين، كانوا يستميتون في محاولاتهم لإقناع المندوب السامي الفرنسي بالموافقة على بعض الصفقات التي كانت، وفق تصوراتهم، «ستجلب الخير والبحبوحة الاقتصادية». وهذا ما عبّرت عنه التماسات المحامين الذين كانوا يعملون لمصلحة «الصندوق القومي اليهودي».
لم يقتصر الترويج للاستيطان الصهيوني على المحامين فقط، بل انتقل إلى الصحافة اللبنانية التي كانت تتلقى التمويل من «الوكالة اليهودية»، وهذا ما سأشير إليه في حلقة مقبلة من هذا العرض. وهو ما يتكرر اليوم أيضاً، ونلاحظه في أداء معظم أجهزة الإعلام اللبنانية والعربية التي تسوّق لمقولة إن تدمير سلاح المقاومة سيجلب المن والسلوى إلى اللبنانيين!
وهذه بعض الوثائق المختارة:
الوثيقة الأولى
مدير الأمن العام للجيوش، المفتش العام للشرطة.
مرجعيون، بتاريخ 28 كانون الثاني 1934
إلى سعادة السيد المندوب السامي للجمهورية الفرنسية، بيروت.
الدوائر العقارية.
يتشرف الملتمس «جمعية الاستعمار اليهودي في فلسطين» (مؤسسة إدموند روتشيلد) بأن يعرض على سعادتكم ما يلي:
تمتلك الجمعية الملتمسة منذ وقت طويل أملاكاً عقارية في سوريا ولبنان. وبما أنّ القانون العثماني لم يكن يسمح بتسجيل عقارات باسم شخصيات اعتبارية، فقد كانت الجمعية مرغمة على تسجيل أملاكها باسم شخصين وسيطين، هما السيدان هنري فرانك وفيليبسون.
وفي ظل التشريع الجديد الذي عدّل القانون العثماني في البلدان الخاضعة للانتداب الفرنسي، تم تعديل التسجيلات في السجلات العقارية السورية منذ ثلاث سنوات، وسُجلت أملاكنا الواقعة في سوريا باسم الملتمسين فرانك وفيليبسون.
يبقى علينا أن نقوم بتصحيح مماثل في ما يخص أملاكنا في لبنان والتي جرى مسحها أخيراً (تعيينات اختيارية للتخوم) الواقعة في قرى الخيام وكفركلا وأبل (قضاء مرجعيون) بموافقة الشخصين الوسيطين السيدين فرانك وفيليبسون، الممثلين بصورة رسمية لنا من أجل هذه العملية، بوصفهما وكيلين قانونيين.
وبما أنّ أمين السجل العقاري في صيدا تردد في إجراء هذا التصحيح لاعتقاده أنّ عليه أن ينتظر تعليمات بهذا الصدد، فقد سمحنا لأنفسنا بالتوجه إلى سعادتكم، ملتمسين أن تتقدم عطوفتكم بأمر من يهمه الأمر كي يقوم في أسرع وقت ممكن بالتصحيح المذكور. وبما أنّ الأمر لا يتعلق بتنازل جديد عن الأراضي المذكورة، بل بمجرد تصحيح مادي (إذ إنّ الأراضي تبقى بين يدي المالك عينه وهذه هي الحجة القاطعة).
تفضلوا بقبول الاحترام
الوثيقة الثانية
بيروت 15 نيسان 1935
خاتم المندوبية السامية، الأمانة العامة، الرقم 8507
من المحامي فيليب ج. صفا
ص.ب. 341، هاتف 101
برقيا، فيليب صفا، بيروت لبنان.
إلى سعادة الكونت دو مارتيل
المندوب السامي للجمهورية الفرنسية في سوريا ولبنان، بيروت
سيدي السفير
كلفني زبوني وصديقي السيد فريد بك هراوي بمتابعة إجراءاته لدى الدوائر ذات الصلة في المندوبية السامية بهدف الحصول، ضمن الشروط الموضوعة لهذا الغرض، على الإذن بالتنازل عن جزء من أراضيه الواقعة في سهل البقاع لمشترين فلسطينيين إسرائيليين.
إن الهدف الذي يسعى إليه السيد هراوي هو الحصول على الأموال اللازمة لاستصلاح أملاك كبيرة سيحتفظ بها في المنطقة عينها، كي يكون مردودها أفضل.
أسمح لنفسي بأن أرفق نسخة من هذا الالتماس الذي سنحت الفرصة للسيد هراوي توجيهه إلى سعادتكم في مطلع شهر آذار المنصرم.
بانتظار قراركم السامي أرجو منكم سيدي السفير تقبل أسمى آيات الاحترام.
التوقيع
الوثيقة الثالثة
إدارة الأمن العام للجيوش، لواء لبنان الجنوبي.
بيروت في 24 آذار 1942
نشرة معلومات رقم 828
تنتشر شائعات في المدينة بأن السماسرة اللبنانيين يعملون على الاستحواذ على أراض في لبنان الجنوبي. وهم يسعون إلى دفع السكان إلى الاعتقاد بأن الانتداب البريطاني سوف يمتد حتى الدامور.
إن المدعوين أدناه ليسوا غرباء عن ممارسة هذه التجارة غير الشرعية وهم:
1- صفي الدين قدورة، من صيدا.
2- خليل فرنسيس ملاك يقيم في بيروت، أصله من القليعة، مرجعيون.
3- الحاج محمد عبدالله، من الخيام، مرجعيون.
4- نصري حداد، يقيم في صور، أصله من روم، جزين.
5- إبراهيم دادا، من صور، صاحب أملاك على الحدود.
6- داوود سرور، يهودي يقيم في بيروت، ويعمل بنشاط كبير في هذا الشأن. ويقال إن هذا الشخص يشجع الأهالي على بيع أراضيهم لليهود.
الوثيقة الرابعة
صيدا في 29 كانون الثاني 1942
المفوضية العامة لفرنسا الحرة في المشرق.
المستشار الإداري في لبنان الجنوبي
مذكرة رقم 116
إلى السادة الضباط قادة الأجهزة الأمنية الخاصة في مرجعيون وصور
بصدد التوضيحات التي طلبت منا حول مسألة الخيارات التي يتخذها يهود من فلسطين بالنسبة إلى الأراضي في لبنان الجنوبي، تلقيت معلومات يبدو أنها يمكن أن تساعدكم في تسهيل تحقيقاتكم.
1– الرهون العقارية:
بعض الأراضي تم شراؤها من قبل وسطاء، وهي مسجلة بأسمائهم. لكن المستحوذين اليهود رهنوا تلك الأملاك (ينبغي إجراء تحقيق في الدوائر العقارية حول هذا الأمر).
2– اليهود المحليون:
اشترى يهود، ولا سيما من صيدا، ومعظمهم من العمال، مساحات كبيرة من الأراضي. ليس هناك أدنى شك في أنهم لم يشتروا لحسابهم الخاص. لا بد من أن الشاري الفعلي قد اتخذ إجراءات وضمانات: رهون عقارية، عقود غير مسجلة، اعترافات بديون وما إلى ذلك.
3– الشركات:
اشترت بعض الشركات (ومن بينها شركة الفاتريدس) أراضي واسعة محاذية للساحل. ويؤكد البعض بأن الغالبية العظمى من الأسهم بيد يهود فلسطينيين.
المستشار الإداري في لبنان الجنوبي
التوقيع: برونو
* كاتب لبناني
صحيفة الأخبار اللبنانية