“بلا أدنى أهمية”… الديوان الأول للمصرية سلوى عبدالحليم

 

تسعى الشاعرة المصرية سلوى عبدالحليم في ديوانها الأول “بلا أدنى أهمية” (الهيئة المصرية العامة للكتاب) إلى خلق مدينة فاضلة كالتي دعا إليها أفلاطون، والفارابي من بعده. ففي قصائد الديوان كافة نجد أنفسنا بين ثنائية متمثلة في العالم المشوه الذي نحيا فيه؛ “عالم القبح”، ورغبتها في الهروب إلى عالم آخر أكثر رحابة وإنسانية، “عالم الفراشات”، سواء بحنينها إلى الماضي بما يمثله من قيم جمالية، أو البحث عنه في العالم الآخر حيث جنة الله.

في قصيدة “بلا أدنى أهمية” الواقعة في القسم الثالث والأخير من الديوان عالم رتيب وممل، كل الأشياء فيه متشابهة كأنها ظلال مستديرة بلا ملامح، يتمدد ويتقلص في شكل ثابت، وسيظل هكذا حتى تأتي الرياح التي ستنقلنا إلى “هناك” حيث العالم الآخر المرجو الذي ستصبح فيه الذاكرة بلا أدنى أهمية، فيمكننا وقتها أن نعيد ترتيب الخيبات التي أوقعنا فيها الحاضر المأزوم.

وفي القصيدة ذاتها، يلاحظ أن عالم المدينة الفاضلة (الفراشات) قابل لأن يهدم في أي لحظة. لذا ينقلنا النص فجأة إلى غربان تنعق فوق أنقاض المدينة الفاضلة، منذرة بانهيار العالم المثالي الذي بنته الشاعرة.

وفي قصيدة “ذاكرة ماتت” ترصد سلوى عبدالحليم عالمين أيضاً؛ الأول يسيطر عليها القبح، تتساءل فيه عن سبب تجاهل الناس لهذه الحقيقة الواضحة: “القبح يلتهم الأشياء الجميلة، ببساطة شديدة، وبلا انقطاع، كأننا لا نراه”، فما سبب دفن رؤوسنا في الرمال، فيما الموت أصبح كالذهاب إلى نزهة أو ممارسة الحب، في إشارة إلى الراهن العربي المأزوم. لكن الشاعرة بإمكانها أن تعيد السعادة في مدينة الفراشات التي تحلم بها من خلال أشياء بسيطة مثل تعليق صور ملونة أو حبات اللؤلؤ الأبيض على حوائط الغرفة، أو حتى بصنع وجبة ساخنة وقالب حلوى كبير؛ “يكفي لإسكات صغيرين لأطول فترة ممكنة”.

وفي قصيدة “قاطع طريق” يحضر عالم القبح الذي تحصر الشاعرة سماته المتمثلة في الهدوء القاتل الذي ترسم له صورة متفردة: “الهدوء؛ الذي يسكن حقيبتي، مثل عطر خشبي حار شديد الثبات، أحتمي به، كلما حاصرتني كائنات مصابة بالفصام… إلخ”. وهنا نلاحظ أنه من فرط الهدوء والثبات يتحول العطر إلى شيء جامد متخلياً عن طبيعته النفاذة، فجعلته الذات الشاعرة جداراً يحميها من عالم القبح. وفي “طيور سوداء” تركز على سبب من أسباب قبح العالم المتمثل في الجماعات المتطرفة التي “تعبد رباً غير الذي نعرفه”، لا يعرف الرحمة أو الحب، يكره الموسيقى والألوان المبهجة، ويعادي الجمال. بذلك تقيم سلوى عبدالحليم موازنة بين إلهين إله عالم الفراشات الذي تمثله البهجة، وإله عالم القبح الذي تمثله طيور سوداء تلتهم الأجساد.

ويحيلنا نص “توازن أحمق” إلى جدارية محمود درويش بحضور الموت والمساحة البيضاء والمخدر والممرضة، المرض، والحديث عن الشعر، فالقصيدة تعلن عن انهيار عالم الفراشات وعدم عودته كما كان، فلم يعد أمام الشاعرة في عالم القبح سوى التظاهر بأن العالم القديم سيعود. وتناقش قصيدة “أفعى قاسية” واحداً من مظاهر عالم القبح هو غياب الحب والاغتراب، وشعور الإنسان بأنه ترس في عجلة غير قادر على التغير، فقط مهمته مراقبة الأيام وهي تسير مثل أفعى قاسية، متبلدة الإحساس، تنتظر منا إنجاز أشياء ذات تأثير متعاظم، ليس من بينها كتابة قصيدة تتحدث عن الحب. فالنص يبرز بوضوح أنه في عصر المادة القبيح لم يعد ثمة مجال لكتابة قصيدة عن الحب.

وفي قصيدة “جغرافيا جديدة” تطرح الشاعرة تساؤلاتها المنطقية حول أسباب اختفاء عالم الفراشات وسيطرة عالم القبح: “أين اختفت الأشياء البسيطة، والأحلام الملونة، والفراشات، التي كانت تتسلق ببطء، حتى تستقر على كتفي، توقظني، ولماذا أنت غائب؟”. وفي قصيدة “قطعة أرض” تقيم الشاعرة مقارنة بين زمنين؛ زمن الآباء، وزمن الأبناء الذين أصبحوا آباء الآن. وهذه المقارنة في حقيقتها ما هي إلا مقارنة بين زمن الفراشات، وزمن القبح.

وفي “طائر أعرج” تظهر المقارنة بين عالم الشاعرة المملوء بالألوان؛ عالم الطفولة، وبين العالم المشوه القبيح الحاضر. وفي “الرب ليس هنا” تخلص سلوى عبدالحليم إلى حقيقة مفادها أنه طالما أن الله يحب الجمال، والعالم الذي نحيا فيه قبيح، إذن الرب ليس هنا، ولكنه ينتظرنا هناك في عالم الآخرة، حيث الجنة، المدينة الفاضلة.

وذلك العالم له صفات تتناثر بين نصوص الديوان تتعلق بالفراشات، بائع غزل البنات، الألوان المبهجة، الصور، السماء المملوءة بالغيوم والمطر والحب، والحدائق والحنين إلى الماضي، وتعلق البنت بأبيها، والحكايات القديمة، والمساحات الخضراء، والعطر… إلخ. فيما لعالم القبح له صفاته المتمثلة في التطرف الديني، الكارهين للحب، آلية الحياة وماديتها، واغتيال الجمال، الرصاص الدم، الجماجم، الحروب، انتشار الغربان، التزمت الديني، اللصوص سارقو قوت الفقراء، وسارقو الأحلام، والجنرال المغرور.

وعموماً، تكثر في الديوان التناصات سواء الدينية أو مع نصوص أدبية، بالإضافة إلى الإسقاطات السياسية، والنزعة الإنسانية المترفعة على فكرة الطبقية، والغناء للحرية والنضال من أجلها، والتأثر بالواقع المأزوم سواء المصري أو العربي، وربما يرجع ذلك إلى عمل سلوى عبدالحليم بالصحافة. ويلاحظ أيضا أن عالم الفراشات الذي تبحث عنه الشاعرة تارة يكون في الماضي حيث عالم الطفولة، وتارة أخرى يكون في المستقبل، فالديوان مملوء بالثنائيات الضدية.

ومما يحمد للشاعرة خلو الديوان من النزعة النسوية الزاعقة الموجودة بكثرة في الكتابات النسوية المعاصرة، والتي تقيم صراعا مفتعلا، بين الرجل والمرأة، متغافلة عن القضايا الإنسانية. ويظهر النزوع المثالي بوضوح في قصيدة “عضو مزعج”: “… العقل عضو مزعج، زائد عن الحاجة، يمكننا بتره بسهولة، والاستغناء عن خدماته، فيما القلب هو مصدر الطاقة الوحيد”. الديون كله دعوة للسلام والمحبة، والبحث المتواصل عنها، ويتمتع أيضا بثراء، يجعله قابلاً لمقاربات نقدية من زوايا كثيرة.

 

 

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى