«بنت محمود» … في رثاء زمن قبول الآخر

تبدأ رواية «المختلط: بنت محمود» (الثقافة الجديدة- القاهرة) للكاتبة المصرية داليا أمين أصلان بالراوية، وهي طالبة في المرحلة الثانوية، وتمتد لعقود عدة وصولاً إلى ما بعد ثورة 25 يناير 2011، لتقدم شهادة عن واقع اجتماعي وسياسي ينطلق من مدينة المنصورة (شمال مصر) متتبعاً أجيالاً عدة من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. وتكمل أصلان هنا ما بدأته في روايتها الأولى «المختلط: وِد» التي صدرت في العام 2016 عن دار النشر نفسها والتي يديرها الكاتب صنع الله إبراهيم. والإهداء فى العملين موجَّه إلى الأب: أمين أصلان، وهما بمثابة بكائية لانهيار عالم جميل وأصيل، شكّلته مدينة المنصورة، بتعددية عِرقية باتت الآن في عِداد الأطلال، إذ لم يعد يدل عليها سوى بنايات مهجورة. وهي المدينة التي تقترب في بعدها الكوزموبيلتي من الإسكندرية، بطلتها المميزة على نهر النيل والتحامها الخجول بساحل البحر الأبيض المتوسط عبر مصيف جمصة. وخرج منها رائد كتابة الرواية محمد حسين هيكل، ومن ثم كانت فضاءً لأعمال روائية كثيرة، منها «شارع الخلا» لفؤاد حجازي، و «بشاير اليوسفي» لرضا البهات، و «ابتسامات القديسين» لإبراهيم فرغلي، و «الشارود» لعامر سنبل، و «حافة الكوثر» لعلي عطا، و «رائحة البيوت» لأشرف حسن، فضلاً عن خروج عدد كبير من الشعراء المميزين من بين أحيائها المدينية ومحيطها الريفي ومنهم علي محمود طه وكامل الشناوي وإيمان مرسال. وهو المحيط ذاته الذي أنجب أم كلثوم ورياض السنباطي وفاتن حمامة وعادل إمام، على سبيل المثال. و «المختلط» هو أحد أقدم أحياء المنصورة، وكان يسكنه في بداية نشأته غير المصريين.

الرواية في جزئها الثاني تغادر المنصورة كثيراً، فالجزء الأول انتهى بوصف حال الجدة بعد وفاة زوجها: «ارتدت فستانها الأسود «الميدي» ذات صباح بعد الأربعين، وضعت غطاء رأس من التل الشفّاف من اللون نفسه، كانت طويلة سمراء بضّة، تحب الأناقة، ورائحة النظافة، ومجالسة اللطفاء، وكل ما يبرز أنوثتها على رغم أنها في الستين. ظلت تغدو إلى الوكالة وتروح حتى اليوم الأخير في حياتها. جدتي لم تيأس أو تمرض أبداً. كتب جدي قبل موته بعشرة أعوام وكالة جلالة للأقمشة والأقطان بإسم «وِد السيد عنتر»، جدتي».

وتتابع داليا أصلان تلك السيرة العائلية من عند والد الساردة (الحفيدة) الصيدلي شهدي، ووالدتها كاميليا وشقيقتيها هدى ومريم. أسرة بسيطة تعيش داخل إطار اجتماعي معقد جداً، بشخصيات تمثل تحدياً حقيقياً لأي كاتب. عدد هائل من الشخصيات، صلات قرابة متداخلة، عائلات كثيرة، أماكن متعددة بأجيال متوالية. إذن تقدم داليا أمين أصلان صورة مصغّرة لمصر عبر عقودها الأخيرة، وكيف تغير الناس، وكيف انتقل الدين من القلوب إلى المظاهر الخارجية، تكبر البطلة/ الراوية وتتجه اتجاهاً بعيداً عن أسرتها، تفتتح صالوناً لتزيين النساء بمشاركة فتاة قبطية، تتحول إلى متعصبة لدينها، بدافع الرعب من الآخر. تتزوج صفاء– الساردة- من ماهر، لتتعرف على أحد أحقر النماذج البشرية، بعدما يسقط زوج شقيقتها هدى في وحل الطمع والتحرش والإجرام. يفشل زواجها مثلما تموت طفلتها من ماهر، لتتزوج من حبيبها الأول «يحيى»، أرقى شخصيات الرواية. وبعدما تتعقد حياة «يحيى» مع زوجته الأولى يكون الجنون هو الحل، فيتزوج والبطلة– صفاء- ويفران إلى ليبيا عبر مساعدة العم «طيفور»، وتعيش أجمل أيام حياتها، وتنجب ولدين، يختار الأب لهما اسمى «طيفور» و «محمود» امتناناً للرجل الطيب الذي ساعده كثيراً ولصديق آخر. وتمضي الأيام حلوة سهلة ممتعة، ولكن يموت «يحيى» في حادث، ينجو منه طفله «طيفور» ولكن ساقه تنزف وربما يتم بترها، تلملم الأم أحزانها على الزوج، والطفل الجريح، وتعود إلى مصر، وتعيش فى القاهرة، وتبدأ سلسلة تغيرات في حياتها، تتزامن مع اندلاع الثورة، التي ينخرط فيها أولادها.

الرواية محكية على لسان راوية، لم تشر الكاتبة إلى اسمها سوى أنه يبدأ بحرف السين، وعبر فصول قصيرة تنساب أحداث هائلة كثيرة جداً، موت دائم، خيانات كثيرة، اغتراب وشعور بالضياع، وجود قوة مخيفة تشعر بها ولا تحددها، أحداث متشابكة في شكل قد يفقد القارئ العجول ترابط الفكرة، فيما اللغة تتناسب دوماً مع الحالة التي تشير إليها الأحداث، مع جرأة ورشاقة، خصوصاً في الحوار الذي يعكس ما وصل إليه مستواه في الوقت الراهن: «ـــ هو أي غني في البلد لازم يكون ابن كلب وخلاص؟ـــ غالباً، لأن البلد أصلاً بنت كلب، ومش هتسيب واحد شريف يغتني». إن مقدرة الكاتبة فى الرواية بجزئيها، واضحة تماماً لجهة السيطرة على بناء متنام، وفي الانتقال من حدث إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، ببساطة ممتعة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى