بنزيون وبنيامين نتنياهو: سرّ (وعنصريّة) الأب
بحلول هذا الصيف في تمّوز، سيكون قد مرَّ على رئاسة نتنياهو للحكومة الإسرائيليّة أكثر مما مرَّ على رئاسة ديفيد بن غوريون. والمقارنة بديفيد بن غوريون ليست مجرّد مقارنة بين رئيس حكومة وآخر في بلد ما. الهتافات في مهرجانات نتنياهو تبدأ وتنتهي بـ«الملك بيبي»، وغلاف مجلّة «تايم» في عام ٢٠١٢ أخذ عنوان «الملك بيبي». كاتب سيرة بن غوريون، شبتاي تيفيث، أعطى للقارئ فكرةً واضحة عن طبيعة دور المؤسّس في النظام الإسرائيلي الحاكم. كان الوزراء والنوّاب والمستشارون يستغرقون ـ بعد مغادرة بن غوريون للقاعة أو غرفة الاجتماع ـ في بحث ما عناه بن غوريون في تلك العبارة أو هذا المصطلح أو هذه الإيماءة. وقد طبع بن غوريون النظام الاحتلالي القائم بشخصه، كما أن نتنياهو يطبع على مرِّ أكثر من عقد السياسة الإسرائيليّة بشخصه.
بالغ العربُ ـ نتيجة مباشرة للدعاية الغربيّة والإسرائيليّة التي استهدفت العرب ـ في تقدير واحترام الديموقراطيّة في إسرائيل ـ حتى لو بحثناً في سمات هذه الديموقراطيّة بين اليهود حصراً. ومع تجاهل العنصر الاحتلالي لدولة ينتفي وجودها من دون الاحتلال، فإنّ الديموقراطيّة الإسرائيليّة ليست مثل باقي الديموقراطيّات (على مساوئ باقي الديموقراطيّات). حاولت إسرائيل تحت قيادة بن غوريون حشر نفسها بين ديموقراطيّات الغرب و«العالم الحر» من أجل نيل غطاء غربي للمشروع الصهيوني، (وبدأ ذلك منذ مؤتمر فندق بلتمور في نيويورك في عام ١٩٤٢، والذي كرّس ربط المشروع الصهيوني بالدولة الأميركيّة في صياغة عن دولة يهوديّة تنضمّ إلى «العالم الحرّ». راهنَ بن غوريون على الفوز الأميركي في الحرب فيما راهنَ الحاج أمين على هتلر وهملر).
ظاهرة طغيان الجنرالات في الحكم في إسرائيل ظاهرة فريدة وذلك لأن المشروع الاحتلالي يكتسب شرعيّة أهليّة من اليهود عن طريق الحرب: المشاركة في الحرب والدعوة إلى الحرب والوعد بمزيد من الوحشيّة في الحرب المقبلة. ولم تكن الانتخابات الأخيرة استثناء من حيث دخول رئيس أركان جيش العدوّ السابق (مع جنراليْن بارزيْن) في منافسة مع نتنياهو الذي شارك في فرقة نخبة للقوّات الخاصّة الإسرائيليّة. وجنرالات الحرب لا يخضعون، كما في الدول الديموقراطيّة «العاديّة»، بسهولة للقيادة السياسيّة. لا نستطيع أن نقول اليوم إن ليفي أشكول كان ممسكاً بالقرار في الحرب والسلم في الستينيّات، ونعلم كيف كان الجنرالات يُملون عليه.
وسمة الفساد ملازمة للحكم في دولة العدوّ، الذي خضع آخر أربعة رؤساء وزراء فيه لتحقيقات متنوّعة عن الفساد. والقول إن إسرائيل هي دولة القانون مخالف لتاريخها الذي تختار منه ما تشاء لتطبيقه، كما هي تختار من قوانين الاحتلال البريطاني ما تشاء كي تطبّقه على الشعب الفلسطيني، وحتى على اليهود في الدولة، في ما يتعلّق مثلاً بقوانين الحظر والرقابة العسكريّة. والعدوّ من خلال الإعلام الغربي و(بعض) العربي يحاول أن يُقنع العرب أن محاكمة ساسة في قضايا فساد دليل على مستوى رفيع من الديموقراطيّة، فيما المحاسبة ضد الفساد تكون ضعيفة وبطيئة للغاية. صحيح أن موشي كاتشاف (الرئيس الإسرائيلي الأسبق) سُجن، لكن ذلك حدث بعد ثبوت اتّهامه بحالات عديدة من الاغتصاب والتحرّش والعنف ضد نساء (وقد أهملت المحكمة، لأسباب عديدة، النظر في حالات لم تصل إلى المحكمة بسبب مرور الزمن). والادّعاء في حالته قَبِل منه تسوية تعفيه من السجن بالمطلق، لكن احتجاجات منظّمات نسائيّة إسرائيليّة هي التي فرضت إعادة النظر في التسوية وإصدار حكم بالسجن، الذي لم يستمرّ لأكثر من خمس سنوات. وقضيّة إسحاق رابين في الحساب المصرفي في واشنطن لم تكن خرقاً بسيطاً للقانون: فتح رابين في واشنطن حساباً سريّاً (لم يعلنه في كشف الضرائب) وكان يتلقّى فيه أمولاً من صهاينة أثرياء في نيويورك. ولم يتلقَّ عقوبة ولم يُسجَن يوماً. وقد مرَّ على تحقيقات فساد نتنياهو وزوجته سنوات طويلة من دون محاكمة رسميّة. والتباطؤ يعود إلى أن المدّعي العام كان وزيراً لصيقاً بنتنياهو نفسه.
وبالإضافة إلى أن الديموقراطيّة الإسرائيليّة محصورة باليهود، فإنّ العنصريّة تسري على صفوف اليهود أنفسهم، حيث لا يتمثّل يهود آسيا وأفريقيا (نحو نصف اليهود) في الطاقم السياسي، فيما صعد يهود الاتحاد السوفياتي بسرعة في سلّم السلطة. والتعاطي مع اليهود الأفريقيّين والمهاجرين الأفارقة هو ترسيخ لعنصريّة أيديولوجيّة لا تكنّ البغض والاحتقار للعرب والمسلمين فقط.
بتنا نعلم من سيرة نتنياهو الذي كتبها آنشيل بفِفر (وهو كان كاتباً في صحيفة «هآرتس» قبل أن ينتقل إلى مجلّة «إيكونومست» التي باتت أقلّ نقديّة في تغطيتها للشرق الأوسط وأقلّ تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني ـ لكن هذا التغيير في تغطية المجلّة يسري على الصحافة البريطانيّة بصورة عامّة، خصوصاً الليبراليّة منها، مثل «إندبندنت» و«غارديان»)، بعنوان «بيبي: حياة وأزمان بنيامين نتنياهو المضطربة»، الكثير عن نتنياهو. هذا رجل ابتكرَ لنفسه، كما ابتكر أبوه من قبله، سيرة ذاتيّة ملائمة. والكثير من شخصيّة نتنياهو مأخوذ من عالم أبيه، بنزيون، الغريب.
انتمى بنزيون مبكراً (قبل سن العشرين) إلى فرع الصهيونيّة الأكثر تطرّفاً، المعروفة بـ«الصهيونيّة المُراجِعة»، التي أسّسها فلاديمير جابوتنسكي. والتطرّف سمة للصهيونيّة، والانشقاقات لم تكن لها صلة بالتعاطي مع العرب بل في التعاطي مع بريطانيا في حقبة الانتداب، إذ إن الوحشيّة ضد العرب كانت محلّ إجماع. وجابوتنسكي كان صهيونيّاً علمانيّاً (أوصى بحرق جثّته، والحرق هو «تحطيم ممتلكات» في اليهوديّة). واسم العائلة «نتنياهو» ليس الاسم الحقيقي للعائلة، بل هو الاسم المستعار لجدّ بنيامين (وكان بنيامين نتنياهو في أميركا يستعمل اسم «بن ناتاي»، اختصاراً). والتأثيرات الأيديولوجيّة على فكر جابوتنسكي لم تكن خافية على أحد، إذ كانت الفاشيّة الإيطاليّة هي المنبع. الانضباط عنده هو ما يجمع الأمّة، والانضباط وسمَ تجربة حركة الشبيبة الـ«بيتار» التابعة لهذا الفرع من الصهيونيّة. وكتبَ جابوتنسكي: «إن تفوّق الإنسان على الحيوان يكمنُ في المراسم»، ولهذا فإنّ الحركة اتّسمت بالانضباط العسكري، والترابية الصارمة، والاستعراضات، والبزّات العسكريّة (وهذا يجمع بين هذه الحركة وبين حزب الكتائب، الذي هو أقرب إلى جناح الليكود منه إلى حزب العمل الصهيوني). لكن الرجل الذي درسَ ومحّصَ في تاريخ القوميّات لم يجد في العرب القدرة على بلورة قوميّة لهم، ويقول في ذلك شلومو أفنيري في كتابه «صنع الصهيونيّة الحديثة»: «في ما كتبَ وقالَ عن العرب بصورة عامّة، هناك نبرة استعلائيّة إن لم تكن نظرة احتقار بالكامل» (ص. ١٧٩). (طبعاً، يستطيع أفنيري أن يلحظ نبرة الاحتقار في خطاب وفكر الصهيونيّة المُراجعة وليس في فرع الصهيونيّة السائدة (حتى ١٩٧٧)، أي حزب العمل الذي انتمى إليه). وإيمان جابوتنسكي بتفوّق العنصر الأوروبي على العنصر غير الأوروبي يجمع بين كل تيّارات الصهيونيّة. ويرى جابوتنسكي عن الحرب أنها «في الزمن الحديث عمليّة وماليّة، وهي خارج نطاق قدرة الأمم المتخلّفة». لكن فكر جابوتنسكي جاهر بالعنصريّة العرقيّة التي حاول الفرع الآخر أن يخفيها ـ أحياناً. يقول جابوتنسكي: «إن الأمّة تتجلّى طيفها العرقي»، ويقول أيضاً: «إن جوهر الأمّة، أو قلعة فرادة صورتها الأولى والأخيرة، يكمن في سماتها الفيزيائيّة المميّزة، وفي تركيبة وصفتها العرقيّة». وهو عرضَ على العرب حلّاً للمشكلة المستعصية: «جدارٌ حديديٌّ من الحراب» يقيمه الصهاينة ضد العرب.
إن مسيرة بنيامين نتنياهو (وحتى شقيقيْه) تأثّرت كثيراً بحياة الأب. بنزيون عاش على أطراف الحركة الصهيونيّة الجابوتنسكيّة التي أرادَ أن يكون ركناً فيها. تذكر المراجع المتعاطفة عن بنزيون أنه كان سكرتيراً لجابوتنسكي، لكنه لم يكن كذلك (وقد وردت الإشارة الخاطئة عن ذلك في مرثيّة «نيويورك تايمز» عنه وفي مقالة «ويكيبيديا» عنه أيضاً)، وليس هناك من دليل على ودّ كَنّهُ المؤسّس للمريد. وبعد تأسيس الدولة، لم يحتلّ بنزيون مركزاً سياسيّاً أو حتى أكاديميّاً مما خلّف في نفسه مرارة شديدة ضد الدولة ومؤسّساتها. فمناحيم بيغن الذي ورث قيادة الحركة من جابوتنسكي رقّى وعزّزَ مواقع الذين شاركوا في القتال ـ أو الإرهاب ـ الذي رافق نشوء الحركة الصهيونيّة وتأسيس الدولة. لم يشارك بنزيون في القتال ما أبعده عن المواقع القياديّة. أما عدم تبوّئه مركزاً أكاديميّاً في الجامعة العبريّة فهو نسبهُ إلى الانحياز الصهيوني الوسطي ضد اليمين، وهناك جانب من الصحّة في الشكّ، لكن بنزيون لم يستطع أن يحوز على مراكز أكاديميّة في الولايات المتحدة التي هاجر إليها (ناقماً) إلا بعد صعوبة وفي حقل تعليم العبريّة في السنوات الأولى. هو تفرّغ لتحرير «الموسوعة العبريّة» ثم «الموسوعة اليهوديّة». أما كتابه الضخم عن تاريخ اليهود في المحنة الإسبانيّة، فقد اختلف منهجه مع منهج كلّ المؤرّخين من قبله ومن بعده، وهو ـ بحسب نقد الخبراء له ـ أسقط المحرقة اليهوديّة على كلّ التاريخ اليهودي برمّته. فهو حاجج أن اليهود في إسبانيا لم يتظاهروا باعتنقاق الكثلكة لحماية النفس كما تقول كل المراجع، بل هو يقول إنهم كانوا مؤمنين حقيقيّين بالكثلكة لكن السلطات أرادت أن ترتكب محرقة ضدّهم لأن التاريخ اليهودي هو تاريخ محارق ضدّهم (وفي نظريّته هذه إهانة وإدانة لليهود).
ولبنزيون نظرة تشاؤميّة ظلاميّة حول الحاضر والمستقبل. هو شكّك بإمكانيّة تشكيل الدولة ثم شكّك بقدرتها على الصمود بوجه الأعداء العرب، ومات وهو يشكّك بقدرتها على البقاء أمام هذا البحر الهائج من العداء من دون المزيد من الوحشيّة (وشكّه، طبعاً في محلّه إذ إن قدرة الدولة الاحتلاليّة التي تزيد باستمرار من سجلّ مجازرها وجرائم حربها، لا يمكن أن تبقى ككيان احتلالي وليس ذلك بسبب نقصان العدوانيّة والكراهية عند الصهاينة ـ كما رأى بنزيون ـ بل لأن شعوب المنطقة لم تقبل قطّ فكرة الوجود الاحتلالي العدواني، كما أن حركات المقاومة تزداد فعاليّة بدرجة عالية). لكن تشكيكه بقدرة الكيان على البقاء كان يوازنه في إيمانه العنصري بتفوّق العنصر الأوروبي.
كنَّ بنزيون عنصريّة حادّة ضد العرب، وأورثها لأولاده. وقد نشرت «معاريف» مقابلة نادرة معه في ٢٠٠٩ عبّر فيها عن كل مكنوناته. ومن المعروف أن بنزيون آمن بطرد كل العرب من فلسطين التاريخيّة في عام ١٩٤٨، وتشاءم من بقاء بعضهم. لم يكن يرى إمكانيّة بقاء الواحد مع الآخر، وقال إن «القوّة اليهوديّة» هي التي ستسيطر (أي أوحى أن عمليّة إبادة جماعيّة ستتكفّل بالعرب فيما بعد). وقال إن العرب سيفرّون من فلسطين في النهاية. أما الحروب والمجازر الصهيونيّة فهي ليست كافية بالنسبة له. «كان يجب أن نضربهم بقوّة أكبر». أما عن شعوره الشخصي نحو العرب فهو قال: «إن الإنجيل لم يجد أسوأ من صورة الرجل في الصحراء. لماذا؟ لأنه لا يحترم أي قانون… إن النزعة نحو الصراع هي في طبيعة العربي، هو عدوّ بالطبيعة. إن شخصيّته لا تسمح بأيّ نوع من المساومة أو الاتفاق. إن طبيعته تكمن في الحرب المستمرّة». أما عن حلّه المقترح، فهو واحد لا بديل له: «ليس من حلّ إلا القوّة. حكم عسكري قوي».
عاش بنزيون أكثر سنواته في الغربة الأميركيّة ومثّل الجناح الجابوتنسكي في الحركة، وهو ينسب إلى نفسه التأثير على الحزب الجمهوري عندما اعتنق برنامجاً صهيونيّاً متصلّباً في ١٩٧٤. أورث الأب أبناءه هذا الكمّ من العنصريّة والعدوانيّة ومشوا على خطاه ـ إلى حد. فقد تمرّد بنيامين وأشقّاؤه ضد الوالد الذي لم يشارك في القتال في مجتمع موغل في العسكرتاريا وفي اعتبار قتال العرب ممرّاً إلزامياً للنشوء الذكوري والتطوّر السياسي. لا طموح سياسيّاً من دون المباهاة في قتال العرب كما شهدنا في الانتخابات الأخيرة. وانضم جوناثان بنيامين إلى صفوف النخبة القتاليّة. وسيرة شقيقه، جوناثان، تعرّضت لمبالغات بطوليّة هائلة وأصبح أسطورة في دولة العدوّ، ودوره في عمليّة عنتيبي (ينسى البعض أن الـ«موساد» ساهم في وصول عيدي أمين إلى السلطة، وإن انقلب عليهم فيما بعد) بات منسوجاً في عدد من الأفلام الهوليووديّة المملّة. والمؤلّف بفِفر كشف عن المخفي في سيرة جوناثان، أنه لم يكن محبوباً في فرقته ولم يكن معدّاً كي يصبح رئيساً للأركان، كما يأتي في السير العديدة. لا، كان يعاني من اضطرابات نفسيّة حادّة ولم يكن محبوباً من الذين عملوا معه وفضّلوا غيره من الضبّاط عليه.
لكنّ موت جوناثان أمدَّ بنيامين بمادة للصعود والتسلّق، خصوصاً أنه حوّل أسطورة أخيه إلى مناسبة للبروز. لكنّه عرفَ أيضاً كيف يجعل من موضوع مكافحة الإرهاب تخصّصه الشخصي مبكراً، مستغلّاً سيرة شقيقه الإرهابي (على أساس أنه مكافح للإرهاب بالمفهوم الغربي والإسرائيلي). والتخصّص في الإرهاب ومدّه باستشراق برنارد لويس العنصري كان من إنتاج نتنياهو في الثمانينيّات، وعمَّر مذّاك.
تفوّق نتنياهو أكاديميّاً، كما تفوّقت أمه وأبوه، لكنه انحرف عن تخصّص في الهندسة المعماريّة والعلوم السياسيّة بعد أن ذاق حلاوة الاحتفاء بشخصه من قِبل المنظّمات والمعابد اليهوديّة في أميركا. ومثل جدّه، تمتّع نتنياهو بطلاقة ـ لكن من دون فصاحة مثل أبا إيبان ـ سهّلت دخوله إلى عالم الدعوة الصهيونيّة والإعلام، خصوصاً أنه يتحدّث الإنكليزيّة بلكنة أميركيّة يستسيغها شعب يضيق ذرعاً باللكنات الأجنبيّة. والإعلام الأميركي دائماً يسعى إلى متحدّثين فصحاء بالإنكليزيّة كي يسهّل مهمّة البروباغاندا، التي أجادها نتنياهو وجعل منها محور عمله في وزارة الخارجيّة. العمل الديبلوماسي لم يجذب نتنياهو، خصوصاً أنه نظر إلى مؤسّسة وزارة الخارجيّة عندما دخلها في الثمانينيّات على أنها معقل لحزب العمل. وأدار نتنياهو مؤسّسة باسم أخيه في إسرائيل وهناك تعرّف ـ عن قصد ـ إلى الكثير من ساسة العدوّ، وهذا كان طريقه إلى عالم السياسة. والذي كان عرّابه في اقتحام عالم السياسة الوزير موشى أرنز، الذي مثل نتنياهو درس في أميركا (وفي جامعة إم.آي.تي أيضاً)، وتباعدا فيما بعد. ومثل بن غوريون من قبل، آمن نتنياهو أن مستقبل الحركة الصهيونيّة يتركّز في الساحة الأميركيّة. أتقن نتنياهو لعبة البروباغندا مبكراً، واستثمر في التعرّف إلى كل الصحافيّين البارزين في واشنطن ونيويورك، وكان هؤلاء مسؤولين عن إبرازه للجمهور الأميركي والإسرائيلي على حدّ سواء (لعب تيد كوبل، في برنامج «نايت لاين» الذائع الصيت في الثمانينيّات والتسعينيّات دوراً كبيراً في هذا الشأن، وهو ليبرالي لكن صهيوني عنيد، وعرفته في أوائل التسعينيّات). لكن لا يجب المبالغة في أثر موهبة نتنياهو الكلاميّة (هو متحدّث فصيح لكنه ليس خطيباً باهراً). لقد أحبّت أميركا كل قادة العدوّ من دون استثناء، وبعضهم من أسوأ المتحدّثين والخطباء قاطبة: هل هناك أسوأ من إسحاق شامير أو إسحاق رابين في المحادثة والخطابة؟
تسلّم نتنياهو منصب نائب السفير الإسرائيلي في واشنطن قبل أن ينتقل إلى نيويورك. وكان معظم عمله إعلامياً ـ دعائياً محضاً، لكن ذلك قرّبه، بحكم الموقع، من كلّ الزائرين الإسرائيليّين الكبار. واستعان من أبيه بفكرة تاريخ المحارق، وأن كل تهديد تواجهه الدولة ـ حقيقيّاً كان أم خياليّاً ـ هو محرقة جديدة. وهذا كان في صلب عمل نتنياهو الخطابي ضد منظمة التحرير ثم ضد إيران، وضد كلّ من تسوّل له نفسه مقاومة عدوان واحتلال إسرائيل. ونتنياهو، مثل أحمد الشقيري، يرى أن ليس هناك من مشكلة لا تجد حلّها في خطاب، خصوصاً أمام الأمم المتحدة.
لكن عودة نتنياهو إلى إسرائيل لم تكن سهلة إذ إن صعوده في الليكود واجه بعض العقبات التي واجهت أباه. لم يكن ينتمي إلى العائلات الحاكمة. لكنه، خلافاً لأبيه، شارك في القتال على عدة مواقع واستعان للقضاء على منافسيه بـ«أمراء» الليكود في الجيل الثاني، مثل دان مريدور وبني بيغن، على ما تعلّمه من السياسة الأميركيّة (تظلّ معظم قراءات نتنياهو حتى في منصب رئاسة الوزراء، تدور حول التاريخ والسياسة الأميركيّة). وهو دخل ميدان العمل السياسي مستعيناً بالخبير الانتخابي الأميركي اليميني، آرثر فنلكلشتين (والذي كان قد عمل في حملات انتخابيّة لعنصريّين، مثل السيناتور جيسي هيلمز في نورث كارولينا). ولم تبالغ الصحافة الأميركيّة عندما نسبت نجاحه في انتخابات ١٩٩٦ إلى الخبير الأميركي. لكنّه لم يكن يأنف من الاتّساخ في الحملات الانتخابيّة خلافاً لمريدور وبيغن أو بيريز. كان يجول في كلّ أنحاء البلاد ويصافح الآلاف، وكان أوّل من جمع أسماء المقترعين والمؤيّدين في برامج على الحاسوب، وهو احتفظ من أميركا أيضاً بقوائم طويلة (وتراتبيّة) لأثرياء موّلوا ويموّلون حملاته الانتخابيّة والدعائيّة. فهِم نتنياهو مثل أبيه أن الناخب الإسرائيلي يريد العنف والقسوة والمزيد من الإرهاب ضد العرب، وأن الجيل الجديد أكثر عدوانيّة وشراسة من الجيل الذي سبقه ـ على عدوانيّة وشراسة الأجيال الصهيونيّة التي سبقت. وفي الانتخابات الأخيرة ظهر مدى اتّساع التأييد لنتنياهو بين الشباب. وهو بات يجاهر بعنصريّته ضد العرب. ولقد اعترف بإيمانه بتفوّق العرق الأبيض في محادثة نشرها الصحافي البريطاني، ماكس هستنغ، في كتابه «الذهاب إلى الحرب»: قال إن الجنود اليهود الأفارقة وذوي الأصول العربيّة في «لواء الجولاني» يمكن أن يقوموا بأداء جيّد لو قادهم «ضباط بيض» (ص. ٢٥٩, من كتاب هيستنغ). وقانون حصر حق تقرير المصير باليهود فقط هو منسجم مع العقيدة العنصريّة التي تشرّبها نتنياهو من أبيه ومن عقيدة جابوتنسكي.
لا يجب شيطنة نتنياهو لأن ذلك يحسّن في صورة سابقيه ومنافسيه. يجب شيطنة الكيان برمّته ـ وبكل رموزه وقياديّيه ـ لأن دون ذلك تفضيلاً بين المحتلّين ـ وهذا ما أدّى بمنظمّة التحرير الفلسطينيّة إلى التهلكة.
صحيفة الأخبار اللبنانية