بنيات السرد العلمي تطرق باب مدينة البعث “ملاذ”
تبدأ رواية “ملاذ – مدينة البعث”، لمؤلفها الشاب أحمد صلاح المهدي، بفجوة زمنية هائلة، تمثل أحداث ما بعد الكارثة العظمى، يقول الراوي العليم، ص 7 من الرواية: “تروي الحكايات عن حرب عظمى حدثت بين البشر، وصراعات على موارد الطاقة أدت لاستخدام البشر لأكثر أسلحتهم تطورًا وفتكًا، حتى انهارت العديد من الدول وفني ملايين البشر، ولم يتبق منهم إلا أعداد قليلة تكافح من أجل البقاء في تلك البيئة القاسية. وكانت ملاذ هي أول مدينة أقيمت في مصر بعد انهيار الحضارة على إثر الحرب العظمي”.
هناك إذن سياق تاريخي عريض يسبق زمن الحكاية، ومكونات البنية السردية بالرواية تسعي لردم هذه الفجوة الزمنية من خلال القدرة علي الإدهاش وفعل المغامرة، واستعمال تقنية الاسترجاع “آلة الزمن السردية” المزجية – بنوعيها: الداخلية (خلال زمن الحكاية)، والخارجية (ما قبل زمن الحكاية) – والرواية بذلك نصف دائرة (قوس) متعددة الأزمات تشتمل “قيم مقاومة”، على نحو نوضحه تالياً.
التاريخ وثيقة استشراف المستقبل:
لحظة الزمن السردية الحاضرة في الرواية تشكل فكرة التراجع الحضاري، بمعني أننا بصدد بداية أخرى للتاريخ مؤطرة بالبدائية الجديدة، وهى القبيلة التي شكلتها في الرواية مجموعات القاطنين والفقراء في “ملاذ”، وطائفة “الصيادين”، وطائفة “المنبوذين” من جهة، وقاطني “أبيدوس” من جهة أخرى، والقادم الروائي بهذا المنظور من اللحظة الأولى في الرواية هو مسرود تاريخي في جوهره، فالمستقبل حضر بذاته يرتدي ثوب التاريخ باطنًا، فكأننا عبر الرواية نعيد فصول التاريخ، فالتاريخ بذلك يمثل “الوثيقة الاستشرافية المقلوبة للمستقبل”، بمعني أن هناك مفهومًا يتضح بجلاء مباشر في رواية “ملاذ”، وهو مفهوم “للتاريخ دورته”، أو تحقيق “نظرية العود الأبدي”، ومن نماذج الرواية أن التحديث والابتكار العلمي العملاق، بابتكار ربة الحرب، وعقارب وجعارين ميكانيكية، وسهام برؤوس متفجرة إلى آخره أتي في الرواية مواكبًا بنشوب الحرب العظمي بين “ملاذ” و “أبيدوس”، مثلما كانت الحروب الكونية في القرن العشرين سببًا في بعث عصر تقني هائل، الإنترنت إحدى ثماره الناجزة.
شكل الأشياء الآتية:
الرواية تزخر بقيم المقاومة، في إطار صدام فريقين يمثلا طرفي النقيض، وهما فريق محبي وطنهم “ملاذ”، وفريق البغي والعدوان على مقدرات “ملاذ” ومعناها، وبينهما فريق ثالث غير فاعل.
يعنى أدب الخيال العلمي في جانب من أفكاره الرئيسة بإنتاج سيناريوهات المستقبل، وهناك عشرات المقولات التنظيرية تشير لذلك، نجتزئ بروح مقولات منها أن أدب الخيال العلمي يصنع ما هو أكثر من المتعة، من خلال هدفه التربوي الجليل: حيث يجعلنا نشارك في تخيل المجهول ويعدنا للمستقبل، من خلال استشراف أثر تطورات تكنولوجية على المجتمع، وبلغت الحماسة أن بعضهم قال إن قراءة أدب الخيال العلمي تدريب أساسي وأمر لازم للمستقبل، وهذا يمهر مفهوم “الخيال القلق” بالثقة، بمعني أن الاهتمام الأصيل لحياة الكاتب هو “الترقب الحرج” بتعبير “ولز” رائد أدب ظلال المستقبل.
ورواية “ملاذ” تعيد لنا سرد التاريخ من خلال صوغ حياة قبلية غير متحضرة ضعفت فيها روابط الدين، أو من خلال أديان غير سماوية موهومة قائمة على الوثنية لتستشرف لنا المستقبل القادم، وتطلق صيحة التحذير حول خطورة التقدم التقني إذا تم استعماله لحساب الطامعين، ووأد السلام، والسعي للهيمنة والقوة، والاستخراب السرطاني التوسعي على حساب الآخر.
بواعث التشويق في “ملاذ“:
جاءت منتجة في الأساس من فكرة التنقيب عن المستقبل في حد ذاتها، مع استعمال بارع لتقنيات سردية ناجزة، حيث لم يفلت الروائي خيوط حبكته الروائية لحظة واحدة، ونثرها بإتقان مستخدمًا فكرة “الغموض الشفيف”، في خطية زمنية، ما عدا انزياح زمني يسير بتقنية آلة الزمن السردية (تقنية الاسترجاع) برحلة الذكريات، والتي كانت ضرورة لازمة نتيجة الفجوة الزمنية الهائلة قبل الحدث الروائي ذاته (كارثة فناء البشرية) لذلك تم استعمال تقنية الاسترجاع بكثرة من خارج زمن الحكاية حيث هذه الفترة غامضة تمامًا بالنسبة للقارئ – موقف الجد ومهاب والسياق التاريخي للصراع بين عمار ومهاب من جانب وراكان من جانب آخر – بمعنى أني أرى أن الخطية في الزمن الروائي – مع تشغيل آلة زمن سردية بكفاءة – هي الفيصل الرئيس في المكون السردي، وعليها مدار التشويق في الرواية بتضفيرها بمكون المكان – والمكان بطل روائي بامتياز – وأيضًا بمزجها بالرمزية المعبرة للشخصيات الروائية في صراعها عن قيم المقاومة النابهة.
ويستمر فعل الراوي الممسرح، بمعني إزاحة أستار الحقائق، لتتضح خيوط “حدوتة” الرواية كاملة أمام القارئ في مطلع الثلث الأخير من الرواية، ليبقي التكثيف الختامي لمغزي الرواية طبقًا لوجهة نظري، والرواية بكاملها استشرافية واستباقًا زمنيًا بمذاق تاريخي، حقق مفارقة زمنية، وعمد إلى الغواية بمتعة القصة وتوريط القارئ المستمر في مواصلة عملية التلقى السردي من خلال شفرات استباقية تمهيدية لا يهدأ الراوي في بثها، والإعلان السردي يأتي من خلال تلميحات وجيزة تؤشر مقدمًا إلى حدث آتي في القادم الروائي بتفصيل، ونموذجًا لها شواهد شبيهه في أنحاء الرواية، الأمير “سيا” يمسك في يده كاشف المعادن الذي صنعه قاسم: “فالتمعت عينا سيا وهو يقول: هذا يغير كل شيء!”، وبعدها بسطور قليلة: “وفي عقله تتشكل خطة جديدة”.
ومن بواعث التشويق أيضًا “التواتر السردي” فهناك قص مستمر مكرر لمشاهد متماثلة في سياقات متعددة، مثال موقف في جوهرة يشكل صراعًا بين خصمين قويين، وتشكل شخصية “قاسم” العنصر الرئيس، فمشهد الأفعى السوداء وصراعها مع الرجال الأربعة في “منجم الحنش” مشهد حركي بالغ الإثارة فيه مشهدية إيحاء سينمائي، ومشهد صراع “ربة الحرب” العملاقة والجعارين والعقارب الميكانيكية مع الذئب المعدني، ومشهد صراع السيف بين “سيا و”قاسم”، ثم مشهد الختام بصراع قطبي الرواية (قاسم / راكان) الذي تلهث فيه الأنفاس انبهارًا بمشهدية بصرية جيدة، بما يؤكد “التواتر السردي” المشوق.
كما كانت تفاصيل المكون السردي (الأمكنة) ووقفاتها الوصفية ذات الأثر المهم في التشويق الروائي، فمقبرة التكنولوجيا الملعونة التي ضمت (الأشياء النجسة التي استعملها البشر قبل الكارثة) في أبيدوس، إلى آخر هذه الوقفات السردية الموفقة، وأظن أن قارئ الرواية ستظل أماكنها ماثلة في ذاكرته لخرائب وأطلال القاهرة، وأكوام الأشياء المهملة والقطع المعدنية، وحي الرماد، وحصن الصيادين وما ضمه من منتجعات وقصور، وخربة الجن، ومقبرة الحنش … إلى آخره.
التفاصيل ودقة المفردات:
من أدوات الروائي الماهر هو استعماله الدقيق للمفردات التي تكشف جوانب من الحدث والشخصية الروائية، وتثري الرواية رغم ميدانها الرحيب بالتكديس الروائي للتفاصيل الموحية، من نماذج ذلك: بوابة حديدية ضخمة تفتح في استهلال الرواية بصرير عال دال البطش والاستعلاء، وأيضًا قول الراوى من داخل “منجم الحنش”، ص 150 الرواية: “وفجأة سقط ضوء المشاعل على عروق ذهب خام لم يمسها العمال فالتمعت بشدة بلونها الأصفر، مثيرة بهجة الرجال حيث فكروا في الثروة التي يمكنهم الحصول عليها، أما قاسم فأعجبه المنظر الذي لم ير مثله من قبل”، مفردة الإعجاب من قاسم في مقابل حلم الثروة للآخرين، رسم متقن لشخصية قاسم أنه يؤثر الجمال والقيمة، وهذا يفسر من ناحية أخرى مسلكه الروائي.
معني “ملاذ” الوطن:
تزخر الرواية بقيم المقاومة، في إطار صدام فريقين يمثلا طرفي النقيض، وهما فريق محبي وطنهم “ملاذ”، وفريق البغي والعدوان على مقدرات “ملاذ” ومعناها، وبينهما فريق ثالث غير فاعل، يقول الراوي، ص 97 الرواية: “كانت هيئتهم مهيبة وهم يقطعون أطلال القاهرة القديمة على أحصنتهم، وحتى قاطني ضفاف النيل الصامتين الذين يحركون المراكب الميكانيكية ظهر في أعينهم الجامدة دهشة وهم ينقلون المنبوذين إلى الضفة الأخرى من النيل، ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، فقد أخذوا عملاتهم الذهبية وأدوا دورهم”.
ويقصد طائفة “المنبوذين” راغبى خير “ملاذ” بقيادة مهاب الحكيم، وقاسم الثائر، وفي مفردة “مهيبة” إلماح للفعل والشروع في المقاومة، يقابلها مفردات نقيضة عن جموع سلبية أتت في النسيج الروائي، فالصمت والعيون التي خمد بريقها تعكس الانكسار بحثًا فقط عن لقمة عيش، وهؤلاء لا يقيمون بتغيير أو بعث “ملاذ” من جديد، ومن قيم المقاومة تحرير المفاهيم ووضوح رؤية المقاوم والتهيئة النفسية للقادم الروائي، أيضًا وعي المقاوم بفكرة وجود قوة تماثل أو حتي تقترب شيئًا ما من قوة الخصم، وليس فقط بالحماسة الناقصة، وبدا هذا في سعي “مهاب” للحصول علي مصدر للطاقة، أيضًا الوعي بجناحي الشر باستعماله المنجز العلمي بسفاهة ورغبة في سحق الآخر، مثله أمير أبيدوس “سيا”، والجناح الآخر لطائر الشر البغيض بالدعاية المضللة وإضافة القدسية للأفكار الشائهة، مثله كاهن أبيدوس الأكبر “توت – أنوب”، أيضًا وعي المقاوم بضرورة مجابهة فكرة التشرذم والانقسام أخطر داء يلاقي أي أمة، فهو “السوس” الذي ينخر عظمها ويهزمها من داخلها، ويحقق انتصار الهزيمة من خارجها.
وبقي أن نشير إلى أن خاتمة الرواية بهية مشرقة سعيدة، رغم أنه من المعلوم جزمًا أن “زرقاء اليمامة” تم نحرها ثمنا ليقظتها لتظل رمز فداء ووعي
ميدل ايست اون لاين