نوافذ

بيروت

 بيروت…إلى كل أصدقائها من الكتّاب والشعراء والفنانين، أرجو أن تكونوا على قيد الحياة. 

هل هناك منظر تشهده عينا الإنسان أكثر يقيناً من خراب المدن، وتحطم نوافذ البيوت، ونيران تلتهم العيش، والناس في ذروة الرعب، والدماء وهي تمطر من الوجوه الجريحة، والأجساد الممزقة؟

منظر بيروت تفضحه لغتنا، ويوميات سياسيينا، وآفاق أحلام أجيالنا، وأسئلة الناس، وهم لا يعرفون اسم الفاعل ونون النسوة، وأحرف جر هذا الكائن، والكسر والضم والفتح والسكون.

منظر بيروت يترك وراء حريقها… فجيعة أننا لا نستحق مدننا، ما دمنا كل عدد من السنوات نتوقع سنوات سوداء أخرى.

الخريطة فضيحة، وكذلك الجغرافيا، وكذلك ازدهار المدن على ساحل هذا البحر الأسود المتوسط.

لبنان الكبير المفصول عن سورية الكبرى بجرّة استعمار، نزلت على شواطئه لتحميه المدمرات الأمريكية، فاحترب الانقسام إلى مؤيدي القاهرة ومعارضي دمشق في سنوات الخمسينات، فتأجل الحريق الكبير… واعداً بنيران أفضل.

لبنان الكبير صار صغيراً، كأنما انقسام الانقسام إلى حارات زواريب ومتاريس، هو التعريف الحديث لوطن حي أرادوا تحريره من الطائفية، أشعلوا حرباً أهلية فانقسم إلى مؤيد لدمشق ومنحاز إلى فلسطين.

واستمرت الحرب 15 سنة كان فيها، لمن يتذكر مرفأ بيروت مكاناً لقصف الزوارق، وحرق الفنادق، وتطوير انقسام القتل طيلة سنوات اليقين بين محاربين تورطوا في حرب لا يعرفون كيف ينهونها، فاستعانت بحراس نكبتها.

فهي  عاصمة الثقافة، مدينة الملاهي، سوق الوصل بالشاحنات من المرفأ إلى الخليج، وكل أقطار شرق المتوسط…. يدمرها أحد ما، وفق البرنامج العام لصراع الأخوة الأعداء ولكي يثبت العصر أن الثقافة لا تبني عشاً تحته قاتل العصافير.

بيروت ثدياً للضوء، كما عنوان كتاب أدونيس عنها… هي، في حقيقة السنوات، اختراع لمهارات الظلام. وحين تريد النهوض تفاجأ بتغيير عكازات الجحيم القادم، لتوريث عكازة الماضي.

بيروت خيمتنا الأخيرة، نجمتنا الأخيرة، كما في حيثيات الرؤية لدى محمود درويش.

وهي  مصدر وحي الحزن، خزان معرفة الطرق المزعومة، درباً إلى السماء، وحديقة خذلان في الأرض، كما في أدب الخيال السياسي… إلى طريق مسدود.

كل هذه البيروت التي وهي تجوع وتعطش وتظلم،  يأتي من يفجرها لكي تزداد حاجتها إلى كل أحدٍ وكل شيء، وكل يوم، وكل دمعة.

بيروت الأغاني الرعوية على شاطئ، والحداء على ظهر السفينة، والتي كلما جددت كمنجات غنائها، وعبقرت أصوات مبدعيها… يأتي تاجر الصمت ليكون الكلام النبيل في الأناشيد، وفي الأغنيات،  أنيناً تحت أيدي أمهات وهن يعدن الطفولة بسكرّ قادم عبر البواخر… تجدد أنواع الثكالى.

بيروت… بكى حجرها وبحرها وجبالها وعشاقها وكل ذرة جمال فيها… فتعالوا، هذا المساء، لنبكي معها.

بيروت… “ألف سلاح” لبيروت، لأن حذف السلام من النشيد هو مطلع ذلك اللهيب.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى