أحوال الدنيا

بين الأمية وتعفن العقل!!

د. فؤاد شربجي

الثامن من أيلول الذي مر الأسبوع الماضي هو اليوم العالمي لمحو الأمية. يمر هذا اليوم كل عام ليذكرنا بكارثة الأمية على المجتمعات عامة، وعلى مجتمعنا العربي خاصة. وعلى مجتمعنا السوري بشكل أخص. حيث أننا وبعد عشرات السنين من تعميم التعليم. جاءت سنوات عدم الاستقرار والحرب بما أنتجته من نزوح وتشرد وفوضى أنبتت أمية واسعة شملت أجيالاً. والمفارقة أن التكنولوجيا القادمة والحديثة لم تتأثر بكل المصائب التي نزلت على رأسنا. وصرنا نجد النازح المشرد الساكن في خيمة يملك هاتفا ذكيا يستعيض به عن التعليم والإعلام والثقافة. وهكذا بتنا في حال بين أمية من جهة، واستلاب للتكنولوجيا غرق في التفاهة من جهة أخرى.

‏لم تعد امية القراءة والكتابة سامّة للمستوي الثقافي والاجتماعي فقط، بل أصبحت تسمم الاقتصاد أيضا. إذ يقول تقرير لليونيسكو في العام 2025 أن التقاعس عن الاستثمار في التعليم الأساسي يكلف العالم 10 تريليون دولار سنويا. ويضيف التقرير أن تحسين مستوى الإلمام بالقراءة والكتابة يمكن أن يزيد الناتج العالمي بنحو6.5 تريليون دولار سنويا بحلول العالم 2030. طبعا هناك تفاصيل في التقرير تؤكد تأثير الأمية على كل مجال اقتصادي على حدة. تصوروا حجم هذه الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الأمية. فكيف إذا اضفنا إليها ما ينتج عن الأمية كبيئة ثقافية فكرية تهيئ للتطرف. حيث رأينا في الأمية مرتعا لتربية الإرهاب بكل أشكاله. وهو الإرهاب الذي يدمر الاقتصاد بتدمير البنية التحتية. وتخريب المؤسسات المنتجة. وتسميم غريزة الإنتاج لدى الفرد. كارثة الأمية فظيعة. والمصيبة أننا في سوريا نعاني من كل هذه البلاوي.

‏توفر التكنولوجيا وخاصة بعد دخول عصر الذكاء الاصطناعي كل امكانيات التعلم والبحث وتطوير المهارات والاطلاع على كل ما ينتج من علوم وابتكارات. كما توفر لنا هذه التكنولوجيا معرفة كل ما يجري من أحداث في أربع جهات الأرض. إنها فرصة إنسانية للارتقاء والتقدم. وبنفس الوقت فإن هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون وسيلة لترويج التفاهة، وتعميم السطحية، وتعميق العمى إذا استعملت للتسلية التافهة ومتابعة الإشاعات، وللتلذذ_ بالفضائح. وبث الفرقة، وشحن النزاعات الطائفية. ورفع النميمة من درك الرذيلة لاعتمادها كسلاح لإبادة وإنهاء الثقافة الخلاقة، ووسيلة لدفن الفكر والتفكير. وقد نبه علماء الأمراض العصبية إلى أن متابعة ما ينشر من مقاطع (ريل). يدوم المقطع لثوان قبل أن يأتي بعده مقطع آخر يقدم مجتوى مختلفا. وينقل المتابع من الكوميديا إلى الفضائح إلى الشحن الطائفي. لكل ذلك نبه علماء الأعصاب إلى أن الاستغراق في هذه المتابعة يسبب مرضا خطيرا هو (تعفن العقل). ويؤثر على أصحابه مهما كان شأنهم. فيصبحوا غير قادرين على قراءة مقال طويل. ويعجزون عن البحث في أي أمر. يخضعون لأي معلومة مهما كانت كاذبة أو مضللة. وهكذا وبدلا من استثمار التكنولوجيا للتعلم والبحث واكتساب المهارات يغرق مدمن التفاهة ومتابعة المقاطع المسلية الكوميدية أو الفضائحية.  ويغرق مدمنو هذه التكنولوجيا في (تعفن العقل).

‏رحم الله من قال منتقدا (أمة اقرأ لا تقرأ). ولو كان على قيد الحياة حتى الآن لقال (أمة اقرأ تتسلى بتعفين عقلها). وإذا كان الإنسان هو الثروة الأولى للأمة. فإن عقله هو ما يجسد هذه الثروة. ويحقق للأمة الحرية والازدهار والاستقرار والاستقلال والارتقاء. ويبدو أن هذه الحقيقة يضطهدها حكامنا. ويستثمر فيها أعداؤنا بدفعنا إلى هاوية التفاهة عبر تعويدنا على إدمان تعفين عقولنا. فيتعفن حاضر ومستقبل الأمة برمتها. هذا ما يقود إليه الطريق الواصل بين الأمية وتعفن العقل الذي يدمن سلوكه شرائح واسعة من مجتمعنا. فهل من عمران يمكن أن ينجو دون معالجة هذه المصيبة المستشرية بفضل الاستبداد و الظلامية والعمى ؟؟؟!!!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى