بيوت الدراما السورية خالية (تقريباً) من الأكاديميين
«من علّم المعلّمين الأوائل؟»، هذا السؤال، على الرّغم من كونه مشروعاً ومبرّراً في فضاء الفنّ، إلّا أنّه أوشك أن يستحيل شمّاعةً يعلّق عليها كلّ دخلاء المهن الدراميّة فشلهم، حين يصيرون في موقع مكاشفة يسألون فيه عن علمهم ومدى اتساع ثقافتهم وإدراكهم لمفاتيح أشغالهم. ولن يتردّد هؤلاء في وضع أنفسهم على عتبةٍ شكسبيريّة تستند إلى جدليّةٍ فارغةٍ يقولون فيها إنّ ستانسلافسكي وفرانسيس كوبولا وبيتر بروك، على سبيل المثال لا الحصر، لم يدرسوا ما درّسوه، بل صاغوا منجزهم المعرفي استناداً إلى التّراكم ونحن على خطاهم سائرون.
تفتقد الدّراما السّورية، منذ نشأتها، إلى عناصر أكاديمية تستطيع أن تقوّم اعوجاج الحرفة، فعدد المخرجين الأكاديميين العاملين في الدراما التلفزيونية يوشك أن يكون أقلّ من عدد أصابع اليد الواحدة. ويعتبر حسن سامي يوسف السيناريست الأكاديميّ الوحيد في سوريا، حيث أنّ دراسته مكنّته من التّخصص في «ضبط السيناريو»، وقد نجح في ممارسة هذا الدّور مع شريكه العتيق نجيب نصير، فشكّلا معاً ثنائياً ناجحاً أنجز نصوصاً مضيئةً اشتغل على إنجازها مخرجون كثر.
وضمن هذا السّياق يجيء الاستثناء في حقل التمثيل، فالممثلون الأكاديميّون الذين خرّجهم قسم التمثيل في «المعهد العالي للفنون المسرحيّة» خلال العقدين الأخيرين، شكّلوا ثقلاً وازناً في خارطة الدراما السّورية، ولا يخفى على أحد أنّ قسماً لا بأس به من هؤلاء صاروا نجوماً تخطب الفضائيّات العربيّة ودّهم في شهر الصّوم، لكنّ هذا لا يلغي أنّ غالبيّة الكفاءات الجيدة في الدّراما السّورية قد دخلت هذا المُعترك استناداً إلى تراكم خبراتٍ وتحصيلٍ معرفيّ وافٍ، حتّى إن لم يكن أكاديمياً.
يقول الأكاديمي سامر عمران، أحد المدرّسين في «المعهد العالي للفنون المسرحيّة»: «أهميّة الدراسة الأكاديمية هي في تكثيف المعرفة على المستويين الثقافي والتقني، لكنّ تحصيل هذه المعارف يبقى متاحاً، من مصادر شتّى، حين تتوفّر لدى الباحث الموهبة والرّغبة وعليه، فإنّ تكوين تجارب علميّة حقيقيّة من دون الخضوع لمنهجٍ تدريسيّ أكاديمي أمرٌ ممكن للغاية». ويضيف عمران: «الطامّة الكبرى يتسبّب بهذا ذاك البعض الذي يعتقد أنّ مسألة الإخراج، على سبيل المثال، هي مسألة تقنية بحتة تتطلّب من صاحبها امتلاك أبجديّة تحريك الكاميرا وتوزيع الضوء، في حين أنّ المتخصّصين يدركون أنّهم يتعاملون مع ثقافةٍ تستوجب منهم فهم المجتمع بصورةٍ تتيح لهم تقديم حلولٍ تعالج إشكالات العمل». ويختتم عمران: «المشكلة أن البعض ينال فرصاً استثنائية على الرّغم من كونه أميّاً بالمعنى الواسع والعريض للكلمة، هؤلاء قد يقودون الصنعة نحو الهاوية».
الحديث عن ضرورة وجود معهدٍ عالٍ للسينما في سوريا يتردّد مع فاتحة كلّ عام، والحقيقة أنّ مشروعاً أكاديمياً من هذا الطراز يستطيع أن ينقل العمل الدراميّ التلفزيونيّ والسينمائيّ، على حدّ سواء، من مصاف الارتجال الفوضويّ إلى مربّع صناعةٍ واضحة التّقاسيم. إلّا أنّ آمال السوريين بامتلاك صرحٍ كهذا، بدّدته الحرب الدائرة في بلادهم من أربع سنواتٍ ونيّف بعد أن تجاهلت الحكومات المتعاقبة تكرار نداءاتهم في سنوات السّلم.
كلّ نجاحٍ قائمٍ على الاجتهاد قد ينقلب إلى فوضى، والفوضى تستبطن عبثاً يمكن أن يتحوّل إلى تصدّعات تجعل سقف أيّ صنعةٍ متداعياً وآيلاً إلى السقوط، والدراما السّورية لم ولن تستطيع أن تنأى بنفسها عن هذه المعادلة، لا بدّ من نواظم تنقذ المهنة من متطفّليها وتجّارها، والمأسسة بشقّيها الأكاديمي والتنظيمي تجيء في مقدّمة هذه النواظم.
صحيفة السفير اللبنانية