تآكل القوة: مستقبل الدور الإقليمي لتركيا في الشرق الأوسط (محمد عبد القادر خليل)
محمد عبد القادر خليل*
اضطلعت تركيا بدور بارز على مسرح عمليات الشرق الأوسط، انطلاقا من مجموعة من المبادئ الأساسية والمواقف المركزية التي تبنتها حيال قضايا الصراع في منطقة الشرق الأوسط، منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في نوفمبر 2002. اتضح ذلك في المواقف التركية من الحرب الأمريكية على العراق في أبريل 2003، ثم في العدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 2006، وعلى قطاع غزة في 2008، وفي موقف أردوغان من الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدى ديفوس العالمي في عام 2009، ثم خلال أزمة قافلة الحرية في عام 2010. ومع اندلاع الثورات العربية، أعلنت تركيا انحيازها إلى الإرادة الشعبية في مواجهة الأنظمة الحاكمة.
أسهم ذلك في تصاعد الدور الإقليمي لتركيا لعدد من الأسباب، أهمها قوة المنطق الأخلاقي الذي انطبع على مواقفها بسبب دفاعها عن الحقوق العربية، هذا فضلا عن استفادتها من غياب قوى مركزية كمصر وسوريا عن تفاعلات الإقليم بفعل الثورات الشعبية، وانشغال العديد من الدول العربية الأخرى بتحصين ذاتها لمواجهة امتداد رياح "الربيع العربي" إلى حصونها، هذا في وقت بدا فيه أن إيران تواجه تحديات غير مسبوقة نتاج تداعيات التفاعلات السياسية والأمنية التي تشهدها الأراضي السورية، وتأثيراتها فى حزب الله في لبنان.
يضاف إلى ذلك أن ابتعاد حركة حماس عن طهران لمصلحة توثيق العلاقات مع أنقرة التي تحولت لراعية التيارات الإسلامية (السنية) الصاعدة إلى الحكم في البلدان العربية أسهم في أن تغدو الأخيرة "الرابح الإقليمي". غير أن سقوط حكم الإخوان في مصر، بحسبانها أكبر دولة عربية، حول أنقرة مرة أخرى إلى "الخاسر الإقليمي" الأبرز، وذلك بعد تراجع الدور الإقليمي لتركيا لمصلحة الدور السعودي الذي تبادل المواقع مع أنقرة، وساند ثورة الثلاثين من يونيو، ودعم موقف الجيش المصري في مواجهة حركة الإخوان المسلمين.
استراتيجية تركيا تجاه الإقليم
اعتمدت تركيا لتدعيم دورها الإقليمي على مجموعة من النظريات التي صاغها فيلسوف السياسة الخارجية، والمسئول الأول عنها، أحمد داود أوغلو، حتى في المرحلة السابقة عن وصوله لرئاسة الجهاز الدبلوماسي التركي، هذه النظريات يأتي على رأسها نظرية "التحول الحضاري"، و"صفر مشاكل"، و"العمق الاستراتيجي"، وكان الهدف من الترويج لتلك النظريات إرسال رسالة مبدئية بأن تركيا تقوم فلسفة سياساتها الخارجية على تدعيم العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، وأنها تستهدف تصفية أية مشكلات تاريخية، أو سياسية، أو اقتصادية مع الدول العربية، بهدف تأكيد أن عودة تركيا إلى التحرك بكثافة على ساحة الإقليم تستهدف تحقيق المصالح المشتركة، والقفز فوق ملفات التوتر والخلاف.
وعلى الرغم من أن بروز دور تركيا على ساحة الإقليم ارتبط بتبني تكتيكات "الوسيط الإقليمي" بين أطراف الصراعات، فإنها سرعان ما حاولت أن تضطلع بالدور ذاته على الساحات المحلية بين حركة الإخوان وبعض الأنظمة العربية، كالنظام السوري. غير أن هذه السياسات ووجهت بفشل واضح، كما أنها أثارت هواجس بعض الأنظمة الأخرى حيال طبيعة التوجهات الحقيقية للسياسة الخارجية التركية، لا سيما مع تصاعد مظاهر تطور العلاقة بين حركة الإخوان وحزب العدالة والتنمية، وقد بدا ذلك واضحا في الحالة المصرية، وبالنسبة لبعض دول الخليج، خصوصا المملكة العربية السعودية.
ومع تصاعد رياح "الربيع العربي"، كانت الفرصة التاريخية لظهور بعض جوانب السياسة الخارجية غير المعلن عنها، والتي تتعلق بأن استراتيجية دعم العلاقات مع البلدان العربية والإسلامية استندت في الوقت ذاته على تركيز العلاقات مع تيارات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، و"الحزب الإسلامي" في العراق، وحركة حماس في قطاع غزة، وقد جاء ذلك على حساب مصالح ورؤى أطراف المعادلات السياسية الأخرى في هذه البلدان.
وحاولت تركيا أن تظهر دعمها لهذه التيارات في إطار تأكيدها أهمية استيعاب القوى الإسلامية، والسماح بمشاركتها في السلطة، ومن خلال الترويج العملي لـ"النموذج التركي" على نحو غير مباشر، من خلال مئات المؤتمرات والندوات والتصريحات حول أهمية الاستفادة من التجربة الديمقراطية التركية في عملية التحول الديمقراطي التي يشهدها عدد من دول المنطقة.
توازى ذلك مع عمليات تنسيقية كانت قد بدأت بين واشنطن وتركيا حول دعم هذه التيارات قبل اندلاع ثورات "الربيع العربي"، ثم تعمقت خلال الفترة التالية عليها، وأدت تركيا في هذا الإطار دورا واضحا لكي يكون التحالف التركي مع تيارات الإسلام برعاية الولايات المتحدة، التي اعتقدت بدورها أن تيارات الإسلام السياسي هى الأكثر تنظيما والأكثر شعبية، كما أنها الأكثر قدرة على الحد من تصاعد التيارات الإسلامية الراديكالية التي تستهدف المصالح والأهداف الغربية.
وكان من نتائج ذلك أن تلقت القوى الإسلامية الصاعدة إلى مقاعد الحكم بدول عربية والساعية إليه في دول أخرى، مساندة تركيا- غربية ماديا وإعلاميا وسياسيا، وذلك بعد أن كانت أنقرة قد قامت باستضافة بعض قادتها كنوع من الدعم المبكر لهذه القيادة، ولضمان ولائها في المراحل اللاحقة.وقد عملت تركيا على تحقيق ذلك بتواز مع تبني استراتيجيات فرعية تقوم على المناورة من خلال الحديث عن أهمية التوافق المجتمعي حيال القضايا الخلافية، والتي تتعلق بمسارات التحول الديمقراطي، وحول أهمية التوافق على كتابة دستور علماني. وقد أشار أردوغان إلى ذلك في ثلاث دول قام بزيارتها في سبتمبر 2011، وهى مصر، وليبيا، وتونس، وهى مفارقة ذات دلالة، وليست مصادفة عابرة.
مؤشرات تراجع الدور التركي
ارتبط تراجع الدور الإقليمي لتركيا بعدد من المحددات الأساسية، أهمها أن قيام تركيا بلعب دور الوسيط داخل بعض الساحات المحلية كشف عن حقيقة التوجهات التركية، والتي بدا أنها منحازة إلى طرف دون غيره، وأن سياساتها حيال هذه الدول تقوم بالأساس على دعم تيارات الإسلام السياسي في مواجهة بقية التيارات السياسية. ومع تزايد حدة الاختلاف والتباين السياسي والمجتمعي حيال سياسات بعض هذه التيارات، كحركة الإخوان المسلمين في مصر وتونس، كان لهذه المواقف تداعيات مباشرة على الصورة النمطية لتركيا، وصدقية ما تعلنه بشأن أهداف تحركاتها الإقليمية، وذلك بعد أن غدت "دولة طرف"، وليس "دولة نموذج".
ذلك أن تركيا سارعت إلى إعلان الدعم والمساندة الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والإعلامية لحركة الإخوان المسلمين، على النحو الذي جعل حزب العدالة والتنمية يبدو- من وجهة نظر بعض السياسيين والأكاديميين العرب- كالجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمين. هذه القضية شهدت تفاصيل عديدة، بعضها أعلن عنه، وبعضها الآخر لم يعلن عنه.
وقد تعلقت في مجملها بأن الدور التركي تعدى دور الطرف المعني بضمان تعميق مصالحه مع الدول العربية، إلى طرف يخترق بعض الساحات العربية، استخباراتيا وإعلاميا، عبر عدد من رجال الأعمال والإعلام والصحافة الأتراك والعرب، والذين لعبوا دورا أساسيا في الترويج للتيارات الإسلامية من ناحية، وتقديم تقارير دورية كانت تجد طريقها إلى الاستخبارات التركية(MiT)، من ناحية أخرى.
وقد أفضى ذلك إلى بداية تشكل ما يشبه حلقات التوتر المحيطة بتركيا، وذلك جراء اضطراب العلاقات مع العراق بفعل ما تراه الحكومة العراقية تدخلا تركيا متواصلا في الشئون العراقية، فيما انقطعت العلاقات مع نظام الأسد بسبب الموقف التركي من الثورة السورية، وكذلك العلاقات مع لبنان بسبب السياسات التركية حيال الملف السوري، والتدخل في الشئون الداخلية، هذا بالإضافة إلى وصول العلاقات التركية مع كل من مصر وبعض الدول الخليجية إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر بسبب انحياز الإدارة التركية لحركة الإخوان المسلمين، ودوام التدخل في الشأن الداخلي لمصر، ومحاولة تركيا تضييق الخناق الإقليمي والدولي حيال القيادة المصرية الجديدة، ومحاولة اختراق الأمن المصري عبر جهاز الاستخبارات التركي، الذي تداخل في العديد من الملفات إبان حكم الإخوان لمصر.
تداعيات 30 يونيو على تركيا
مثلما كانت إيران الطرف الإقليمي الذي واجه التحديات الأكبر بسبب ثورات "الربيع العربي"، فإن تركيا غدت الطرف الأكثر تضررا بعد ثورة 30 يونيو، ذلك أنها لم تفض إلى إلا تآكل "مشروع القوة الناعمة التركي" بسبب المواقف الشعبية التي باتت تطالب بمقاطعة المنتجات التركية، سواء كانت من الأعمال الدرامية، أو من المنتجات الصناعية، فضلا عن تزايد الحملات العربية لمقاطعة تركيا سياحيا، واتساع نطاق المواقف المعارضة لسياسات تركيا، ونظر البعض لأردوغان بحسبانه "نجاد" الشرق الأوسط الجديد، بسبب تصريحاته التي باتت تخرج عن السياق وأطر اللياقة، خصوصا بعد تصريحاته المتعلقة بامتلاكه وثائق حول وقوف إسرائيل وراء ثورة 30 يونيو.
هذا بالإضافة إلى التأثيرات الناتجة عن نهوض تركيا بدور "صانع الاضطرابات الإقليمي" بدلا من طهران التي شهدت الشهور الأخيرة ظهور بعض مؤشرات الاعتدال النسبي على سياسات قياداتها الجديدة، فيما كست علامات الراديكالية والتحيز مواقف أردوغان وصحبه في أنقرة، وذلك بعد أن خسرت تركيا أهم وأكبر دولة عربية، وفشل مشروعها فيها الذي استهدف خلق دولة مركزية في منطقة الشرق الأوسط محكومة بنخب إسلامية، عديمة الخبرة، تتبع التوجهات التركية، وتشكل عمقها في المنطقة، ومنفذها إلى كافة الدول المجاورة.
هذا الفشل كان من تبعاته توتر العلاقات المصرية- التركية على نحو غير مسبوق، وقيام العديد من العمليات السياسية والأمنية التي تستهدف ضرب الاستقرار المصري، وإفشال العملية السياسية الجديدة، سواء من خلال تهريب شحنات، أو ملابس عسكرية إلى الداخل المصري، و"تصدير" بعض الأفراد الذين يخططون للقيام بعمليات تستهدف منشآت حيوية في مصر، هذا بالإضافة إلى محاولة استقبال بعض قيادات حركة الإخوان المسلمين في تركيا لتشكيل حكومة منفى مصرية، ودعم بعض الشخصيات المصرية التي استطاعت أن تهرب إلى قطاع غزة لدعم الفكرة التي طرحها "التنظيم الدولي" للإخوان أثناء اجتماعه في أنقرة لإنشاء "جيش حر"، في محاولة تركية بالتعاون مع "التنظيم الدولي" لتكرار السيناريو السوري مع مصر.
هذه المؤشرات تنقل تركيا بالنسبة إلى مصر – كما جرى سابقا مع سوريا – من موقع "الحليف" إلى موقع "الغريم". غير أن تداعيات توتر العلاقات مع مصر ستكون أوضح وأضخم على دور تركيا الإقليمي، ذلك أن نمط تحالفات مصر مختلف تماما عن دمشق. فمصر باتت مدعومة من الدول العربية المركزية، خصوصا في منطقة الخليج، بما يعني أن ساحات التوتر ستمتد إلى منطقة الخليج التي أعلنت العديد من دولها مراجعة وتجميد مشروعات استثمارية بمليارات الدولارات، كانت تنوى تدشينها مع تركيا.
وقد سعت بعض هذه الدول أيضا إلى مواجهة السياسات التركية الهادفة إلى دعم حركة الإخوان المسلمين، والقضية بالنسبة للعديد من هذه الدول قضية محلية، قبل أن تكون إقليمية، لذلك فتركيا تتجه إلى العودة إلى مقعدها الذي تبوأته، قبل وصول أردوغان إلى مقاعد الحكم، بحسبانها دولة جوار غير عربية لا يعنيها أمن واستقرار الدول العربية، وهو أمر ستكون له تداعيات وخيمة على الدور التركي، ليس لأن ذلك سيكون بسبب قناعات ومخاوف النخب العربية الحاكمة فحسب، وإنما أيضا قطاعات واسعة من الأغلبية المحكومة.