تأملات ليلية

صار ممكنا و قد اعتدل الطقس أن ألجأ إلى شرفة الدار بعد إفطار رمضان حيث أستقر على مقعد مريح بعيدا عن المسلسلات التلفزيونية كي أقطع الوقت برفقة المشاهد التي يسمح لي مكاني أن أراها تحت نظري على الأرض وفوقه في السماء …

كان أقرب المناظر هو الحديقة العامة التي تغلق أبوابها مساءً ، و لكن بعض الأضواء كانت تشعرني بما تضمه تلك الحديقة من أشجار و ممرات ، فإذا رفعت رأسي و بصري إلى أعلى غرقت في الفضاء العامر بنجومه و أبعاده الفلكية ، و حين هبطت من جديد ببصري اقتحمني منظر مئات السيارات التي تترصّ الواحدة وراء الأخرى في صف طويل مديد مطلعه عند الكازية القريبة و آخره عن سوق “الشيخ سعد” غير أنني لم ألبث أن هربت من هذا المنظر الكئيب كي أعود إلى الحديقة التي تذكرني بالمقبرة التي صنعها الاحتلال الفرنسي – المسمى بالإنتداب – كمدفن لموتاه من الجنود و كيف تحولت المقبرة هذه بعد خروج الأجنبي عام 1945 كي يغير النظام الوطني فيما بعد المقبرة إلى حديقة عامة .. ها أنذا أتذكر الأن الزمن الذي سيطر فيه الإنتداب الفرنسي و كيف كنا في المدارس الابتدائية و الثانوية ندرس مواد المعرفة المتنوعة باللغة الفرنسية حتى لقد أتقناها لفظا و كتابة وها هي ذكرياتي تتدافع كي أطرح على نفسي هذا السؤال : هل كان الإنتداب الفرنسي وبالاً علينا بالمعنى المطلق أم أنه زادنا ثقة بأنفسنا و بالمعرفة العامة التي كنا نتلقاها في المدارس ؟ فإذا بي أقول لنفسي : لقد كانت أساليب تلقي العلم أفضل من أيامنا الحالية ، إلا في أيام الإستقلال في سنواته الأولى ، أما الآن فقد بات حشر التلاميذ في الصف الواحد الذي يسع مثلا عشرين تلميذا يرفع هذا العدد إلى ضعفه و صار التدريس ضعيفا جدا إلا في بعض المدارس الخاصة الغالية الأقساط المالية حيث لا تستقبل سوى أولاد الموسرين جدا .

عدت إلى مشهد السيارات كي أراني أغرق في الأفكار الصعبة عن معيشتنا في ظل الأنظمة الظالمة في معظم الأقطار العربية حتى الخليجية منها و لكن الليل مسح على جبيني مشفقا و رد إلي بعضا من سكينتي مع خشوع الظلام وروعة السماء المفتوحة على مليارات النجوم و الكواكب فأدرت وجهي إلى الأعلى ، و سمحت لباصرتي أن تسبح في محيطات الفضاء و قد أخذتني روعة الكون و إذا بي أتحول إلى عابد غارق في صلاته و هو يناجي خالق هذه الروعة الكونية متسائلا بهذه الشطحات الفكرية : ماذا تصنع الأن يا إلهي؟! و لماذا خلقتنا و منحتنا إمتياز امتلاك العقل من دون المخلوقات جمعاء ؟! ما هو مشروعك يارب في معجزة الخلق هذه ؟! و لماذا كل هذا العذاب ؟!

و عند هذا السؤال الأخير وجدتني أنهض مرتعشا من برد مفاجئ و إعصار من الأفكار يهب على مجلسي من بعيد إلى نوم يشبه الموت …