تحطيم متعدد الأشكال للمجتمع السوري (ياسين الحاج صالح)

ياسين الحاج صالح

 

لا تعطي الأرقام المجردة عن عدد الشهداء والمعتقلين والنازحين واللاجئين فكرة عن مستوى تحطيم المجتمع السوري، البيئات الثائرة بخاصة، على يد النظام الأسدي. الكلام على 42 ألف شهيد من طرف الثورة وفق الأرقام الأكثر تحفظاً، وعلى ما ليس معروفاً من المعتقلين (تكلم معاذ الخطيب قبل أيام عن 160 ألفاً). أما اللاجئون القسريون خارج البلد، فربما يقارب عددهم اليوم 700 ألف، وهو في تصاعد مستمر. ويتجاوز مجموع النازحين الداخليين مليونين ونصف مليون، وليس معلوماً عدد النساء اللاتي اغتصبن، وكذلك الأطفال في المقار الأمنية.
غير ذلك هناك تدمير ما لا يحصى من الممتلكات من مساكن وورش ومزارع ومحال تجارية.
وفقدت أعداد يتعذر تقديرها القدرة على العيش البسيط. حتى الخريف الماضي كانت تُرى أسر تعيش في الحدائق، وفي كل وقت ترى أمهات يتسولن ومعهن أطفالهن، وتتواتر معلومات عن انتشار الدعارة، مقابل الطعام في مرويات، وبغرض إعالة الأسرة في مرويات أخرى.
هناك ضحايا من طرف النظام أيضاً، ربما فوق ثلث عدد ضحايا الثورة. لكن تحطيم بيئات الحياة، وشروطها المادية والاجتماعية، محدود جداً. خص النظام حواضن الثورة بذلك المزيج المميز جداً له من البدائية التقنية والبدائية الأخلاقية، على ما رأيناهما يتجسدان معاً في ذلك المشهد لعسكري في طائرة مروحية، يشعل بسيكارته فتيل برميل متفجرات، قبل أن يدفعه بقدمه للسقوط فوق منطقة مأهولة. يستحق هذا المشهد جائزة البربرية التي يمكن تعريفها بالضبط بهذا المزيج من بدائية تقنية وبدائية أخلاقية. عنصرا المزيج مترابطان على كل حال. فبفضل هامش مريح من العنف (سهّلته على نحو إجرامي الأيديولوجية الوطنية، وفي وقت أسبق ضرب منحط من الماركسية) تحرر النظام من أي ضغط في مجال المهارة والكفاءة وحسن التنظيم. الأسدي النمطي هو شخص يفوز بما يشتهي بالسلاح، الشبيح.
هذه البربرية نجت منها البيئات الأقرب إلى النظام: لا تقصف بالبراميل، لا تُطلق عليها صواريخ سكود، لا ترمى عليها القنابل الفراغية والعنقودية، لم يُغتصب أحد من أطفالها في فرع الأمن، لم يُقتل أحد من الأطباء فيها، لم تنهب ممتلكات فيها، لم يقتل شبابها برصاصة في الرأس قبل أن يرموا مقيدين على ضفة نهر، أو تحرق جثثهم في أماكن مهجورة، لم تترك أحياء وبلدات بكاملها حطاماً فيها.
هذا يضاف إلى جريمة النظام الأسدي ولا يقلل منها. فقد فرّق بين السوريين وألّبهم على بعضهم بعضا، ونزع إنسانية الجميع ووطنيتهم. وإذا كنا نتكلم على تحطيم المجتمع السوري، فللإشارة إلى دمار يفوق الخيال للرابطة الوطنية، وليس فقط إلى أن فوق 60 ألفاً من السوريين قتلوا في الحرب الأسدية، وأن مدناً وأحياء وبلدات وقرى، ونفوساً، دمرت بالكامل.
ولعل الكلام الكثير على «جبهة النصرة»، والاختصار المتعمد للثورة السورية إلى هذا الفصيل الأقلي فيها، وهو ما جعله النظام نهجاً إعلامياً ثابتاً له منذ أدرج الأميركيون «الجبهة» على قائمة المنظمات الإرهابية، هو بالضبط مساهمة في التدمير المزدوج للمجتمع السوري: من جهة رد الثورة إلى صراع مع «إرهابيين» (كانوا سلفيين و «عراعير» قبل حين) لا قيمة لحياتهم أو هم صنف أدنى من البشر، وهو ما يسوغ، من جهة أخرى، إبادتهم، وفقاً لسنّة لا يستطيع الأميركيون والغرب الاعتراض عليها لأنهم من سنّوها: إبادة «الإرهابيين» هي السياسة الوحيدة الصالحة في مواجهتهم!
وهذا يتيح حجب واقع البربرية الفعلية الممارسة يومياً وراء بربرية مفترضة، لها اسم تجاري دولي معترف به. وكلما توسع القاتل في بربريته زادت حاجته إلى بربرة المقتولين.
يساهم في ذلك مثقفون احترفوا المزايدة الفكرية، يشخّصون مشكلات مجتمعاتنا في «الرؤوس» لا «الكراسي»، على ما قال مراوغ مزمن. وفقاً لهذه الدوغما الرثة التي تنسخ من حيث البنية الاقتصادوية الماركسية القديمة من دون تغيير، ولكن مع وضع «الثقافة» موضع الاقتصاد، يكون النظام السياسي مظهراً لجوهر مكنون في الرؤوس التي لا يبدو أن فيها شيئاً آخر غير هذا الجوهر الفاسد. لسنا هنا حيال مجتمع بشر دنيويين، يريدون أن يسكنوا في بيوت لائقة، وأن تدر أعمالهم عليهم دخولاً كافية، وأن يتعلم أولادهم في مدارس جيدة، وأن يبتهجوا بالعيش، وأن تتوافر لهم ما توفره الحياة المعاصرة من فرص وأدوات. لا، يتعلق الأمر بنوع بشري خاص، ميؤوس من صلاحه، إن لم يكن التخلص منه مرغوباً، فإنه ليس بالأمر المهم.
والحال أنه إذا كان الأمر كذلك فإن الطريقة المثلى لتغيير العقول هي قطع هذه الرؤوس المريضة، وسيكون القتل الفعلي الممارس منذ 13 شهراً تقريباً من دون استراحة تطبيقاً لهذه النظرية. أما «الكرسي»، أي نمط ممارسة السلطة، فهو تفصيل، مجرد نتاج للرأس (بالمفرد) المضروب. وإذا بدا أن «الرئيس المنتخب»، «الكرسي»، هو من يقتل الناس ويحطم المجتمع ويدمر البلد، فهذا مجرد مظهر خارجي لواقع حقيقي يتمثل في أن الكرسي نتاج للرؤوس، بل لعله ضحية لها إن تعمقنا في الأمر كفاية. كان في هذه النظرية (وهي أيضاً نظرية الاستخبارات السورية) الكثير من السياسة دوماً. اليوم تنكشف أنها موقف سياسي مباشر، ولا شيء غير ذلك.
وعند جميع أصحاب هذه النظرية من دون استثناء، الرأس الفاسد هو رأس منسوبين إلى جماعة دينية ومذهبية بعينها، «يصادف» اليوم أن أكثرية ضحايا الثورة منها. هل هذا «الفكر» بريء من هذا التأسيس للطائفية في الثقافة؟
ليست هذه قضايا إدراك، مشكلات فهم أو سوء فهم. إنها وثيقة الارتباط بمواقع واعية في الصراع الاجتماعي والسياسي بين ثورة السوريين والنظام الفاشي. وبين القاتل الذي يهرس رأس ثائر بكتلة من الإسمنت، و «المفكر» الذي تزعجه رؤوس المقتولين وليس كرسي القاتل، هناك استمرارية في النهج وفي النتيجة. نهج التشبيح الذي لا ينتج قيماً إيجابية، مادية أو ثقافية أو سياسية، بل يعتمد المزايدة في السياسة بحيث ينزع وطنية المحكومين، والمزايدة في الفكر لنزع العقل منهم، فضلاً عن توسل السلاح لامتلاك الثروة. والنتيجة هي الانكشاف التام للمجتمع السوري وتحطيمه المتجاوز لكل حد.
هذا الدمار ليس ابن اليوم. إنه تتويج لحكم نصف قرن.

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى