تدوير سايكس ـ بيكو: جغرافية الرعب ( طارق الدليمي)
طارق الدليمي
إذا كانت «الاتفاقية» في جوهرها هي «تقسيم وتقاسم» الملكية العقارية ونفطها للسلطنة العثمانية، وتوجت في 9 أيار 1916 بالاتفاق مع روسيا «القيصرية» في «سان بطرسبورغ» وتحديدا مع وزير الخارجية «سازانوف»! فإن هذه «الاتفاقية» أصبحت بضرورة «الأمر الواقع» بعد الثورة البلشفية 1917 هو «تقسيم وتقاسم» الحصص الروسية من الغنيمة العثمانية. كانت العلاقات التاريخية العثمانية ـ الروسية مزيجاً محكماً من التعايش السياسي السلمي والتنافس الامبراطوري الحربي. كانت المطالب الروسية متواضعة قياسا للطموحات والأطماع البريطانية ـ الفرنسية. تم شطب «الغنيمة» النفطية نهائيا في الحصص الروسية من «الاتفاقية» وكان التركيز الروسي على المناطق «الاستراتيجية الجيوسياسية» لحماية وتمتين جنوب وغرب الامبراطورية الروسية وضمان الحفاظ على مصالحها في شمال بلاد فارس حسب الاتفاق مع الامبراطورية البريطانية في عام 1907، والتي تشمل مصالحها في الجنوب الفارسي النفطي ـ التجاري آنذاك.
كانت الحصص الروسية تغطي ولايات ارضروم، طرابزون، تيبليس، فان ومنطقة «كردستان» الواقعة جنوب «فان» وتمتد إلى الشمال الغربي من بلاد فارس، قبل تسميتها في العام 1934 بالاسم الحالي ايران، وكذلك منها مجرى «نهر دجلة» وجزيرة ابن عمر. ولكن الحصة المهمة والاستراتيجية كانت الإصرار الروسي على الحصول على «استانبول»، ومنطقة بحيرة «ارميا» والممرات والمضايق البحرية كلها. وكانت روسيا تتعامل بوضوح مع «حصصها» بكونها مندمجة في صلب سيادتها المطلقة. وطالبت أيضا بأن يكون لها دور في حماية ممتلكات وإقامة الشعائر الدينية الارثوذكسية في فلسطين على أن لا تعترض على الاستيطان اليهودي هناك. ويبدو هنا أن النظرة «القيصرية» هي أقرب إلى النموذج الاوروبي منه إلى السياسة الاميركية.
لقد قلبت الثورة الروسية 1917 الخطط البريطانية رأسا على عقب. فقد سارع الثلاثي «تشرتشل، لويد جورج واللورد بركنهيد» إلى محاولة تأسيس «امبراطورية في الشرق الأوسط» وهي تمتد من مصر إلى الهند وتشمل العراق، بعد استرجاع الموصل، وفلسطين والاستيلاء على حصة «روسيا» من الممتلكات العثمانية في اتفاقية «سايكس ـ بيكو ـ سازانوف» وكذلك النفوذ «الروسي» السابق في شمال ايران. وبهذا تنهي. الحلقة المركزية هنا هي الاستيلاء على «استانبول» وأصبح الحلم واقعا في 1919 ـ 1920. وكان أهم إنجاز حققه «تشرشل» في مشروعه الجديد هو تشكيل دائرة خاصة «لشؤون الشرق الأوسط» العام 1921 في وزارة المستعمرات التي يديرها، وعين «لورنس» مستشارا أول في الدائرة. وبالتعاون مع «برسي كوكس» و«مس غرترود بيل» تم عقد مؤتمر القاهرة في آذار 1921، وكانت من أهم القرارات:
1- «تشكيل» دولة العراق «الملكية» الجديدة تحت عرش «فيصل الأول».
2 ـ إلحاق «كردستان» الجنوبية مع الدولة الجديدة، بعد أن سلمت «كردستان الشمالية» إلى تركيا «الجمهورية» بقيادة مصطفى كمال.
إن العمليات العسكرية التي قام بها «اتاتورك» بين 1919 ـ 1922 قد ألغت معاهدة «سيفر» 1920 والتي نصت على منح «الاكراد» دولتهم أو حكمهم الذاتي، وثبتت معاهدة «لوزان» 1923 وبعدها الاتفاقية الثلاثية «البريطانية العراقية التركية» 1926 الحدود الحالية لتركيا الراهنة، مع أن النخب التركية الحاكمة والمتلاحقة لم تكن راضية أبدا عن هذه الاتفاقيات ومثالها الصارخ تصريحات «سليمان ديميريل» 1995 حين قال، في ذروة الحصار الجائر على العراق، إن «الحدود» بين العراق وتركيا «جيولوجية»، النفط! وليست «قومية»! وبهذا فقد أصبحت تركيا الأطلسية، بغض النظر عمن يحكمها، مهمتها هي «التقاط القطع المتناثرة» والمتروكة على قارعة الطريق من قبل الفوضى «الاقليمية» الشاملة والتي يتحمل «الغرب»، وفي المقدمة أميركا، المسؤولية الكاملة عنها.
وإذا كانت روسيا القيصرية قد حاولت، من خلال اتصالاتها السرية مع ألمانيا، إنهاء الحرب العالمية الاولى 1916 والبدء بتشييد «نظام جديد» في القارة الاوروبية تحديدا وقد فشلت في ذلك، فإن البلاشفة 1917 حين استولوا على السلطة أبلغوا دول الحلفاء بوضوح «رأيهم بلزوم عقد الصلح» بلا تعويض أو ضم وعلى أساس تحرير الشعوب الكامل. وسارعت روسيا «الاشتراكية» إلى الاعلان عن الاتفاقيات الاستعمارية، ومنها اتفاقية سايكس ـ بيكو- سازانوف 1918، وفضحت في إعلانها الموقف الحقيقي للدول الرأسمالية في احتلال الشعوب واستنزافها. بل ان «السوفيات» كان لهم الفضل الكبير في الحفاظ على المناطق الشرقية، كردستان الشمالية، من تركيا الكمالية حين كان «اتاتورك» يخــوض معاركه الفاصلة في جنوب وغرب تركيا لتحـريرها من الاحـتلالات البريطانية واليونانية والايطالية. وعقدت بموجب ذلك معاهدة بين «السوفيات» و«اتاتورك» في عام 1921. وبهذا المعنى فقد ساعد «السوفـيات» بصورة غير مباشرة تركــيا على إنهاء «المسألة الكردية» في الداخل الجيوسياسي لتركيا الجديدة.
إن جوهر اتفاقية سايكس ـ بيكو وتعديلاتها المتعددة يؤدي عمليا إلى تقسيم «كردستان» بالالحاق المباشر أو بصورة مناطق نفوذ متعددة، ففي حزيران 1918 سافر أول مندوب سام بريطاني في العراق، سير بيرسي كوكس، إلى مارسيليا ليقابل «شريف باشا»، الذي صار في ما بعد رئيس «الوفد الكردي» لمؤتمر السلام 1919، وكانت المباحثات تتركز على موضوع إقامة «كردستان» مستقلة أو متمتعة بحكم ذاتي. وهذه المباحثات «تتطابق» بصورة مدهشة مع وعود مكماهون للشريف حسين! لكن أحداث «الأمر الواقع» حوّلت الأمنيات الكردية إلى «جثث» متفسخة تطفو على سطح المصالح الاستعمارية البريطانية، وكانت طائراتها الحربية، كما يشير المؤرخ المرموق معروف جياووك، جاهزة دائما لدفن الأحلام الكردية في مقابر بريطانيا الواسعة في الشرق الأوسط الجديد. ولم تتمكن الجهود السوفياتية «الايديولوجية» من إنقاذ «الشعوب» من فك القرش الاوروبي المفترس.
لقد اعتبر التفات «السوفيات» إلى الشعوب وحركاتها ضد «الاستعمار» أنه «انقلاب حاد» في السياسة الدولية. لكن استمرار ذلك وبدون تخطيط سياسي مدرك قد أدى عمليا إلى استقطابات أقاليمية «حادة» مما مهد، حسب العرف الستاليني اللاحق، إلى تعاون «الطبقات الوسطى» في المنطقة مع «الاستعمار» ضد الحركات الشعبية وأهدافها المشروعة. ويسميها السياسي اليساري العراقي المخضرم عبد الفتاح إبراهيم بأن «الاحساسات الطبقية» لدى الكتل الاجتماعية الحيوية كانت أقوى من «الاحساسات الوطنية»، وبالرغم من أن السوفيات كانت لديهم رغبة حارقة في تشكيل «عصبة أمم» مع «الشعوب» معارضة ومتضادة مع «عصبة الأمم» الرأسمالية، إلا أنهم أخفقوا في إنجاز ذلك. وكان مؤتمر «باكو» لممثلي الشعوب الشرقية 1920 بديلا من هذه الرغبة، حيث وجهوا نداءهم «الفريد» في نمطه، إلى شعوب الشرق: تعالوا إلى «باكو» للتفاهم مع «الجيش الأحمر» بعد أن بقيتم دهورا تقطعون الصحراء للحج إلى الأماكن المقدسة لتبتهلوا إلى الله وإلى ماضيكم!
ليس من «الصعب» أبدا تخيل مراجعة روسيا «الحالية» لاتفاقية سايكس ـ بيكو، ولا سيما في جانبها «التركي ـ الكردي»، بالرغم من أن «شروط» هذه المراجعة تبدو «غير ناضجة» حسب تحليل السياسي والكاتب «فاتح جاموس» في مقالته الهامة حول الدور التركي السيئ في المنطقة حاليا. لقد حاول النظام العربي القومي وهو في عز مشروعه العادل أن يجري تعديلات حقيقية على هذه الاتفاقية الجائرة، وذلك من خلال الوحدة المصرية ـ السورية 1958، أو في الإسناد العسكري المصري لثورة اليمن بعد الانفصال المصري ـ السوري في العام 1961. يمكن التأكيد أن روسيا في أطوارها المختلفة، القيصرية والسوفياتية والحالية، كانت دائما تنظر بكون أصل «المسألة الكردية» في أول الأمر في الخلاف التاريخي بين الدولتين القويتين «ايران وتركيا» على جانبي الأقاليم «الكردية» ثم دخلت هذه المسألة لاحقا في الطور الثاني عبر الزحف الكولونيالي وبعده الامبريالي في المنطقة. إن روسيا «الآن» لن تسكت على الاستفزازات التركية ومشروع الأطلسي في أراضيها المهددة مباشرة للآمن القومي الروسي. وهي قد تستثمر صداقاتها وتحالفاتها الاقليمية إلى الحدود العقلانية لردع الاستفزازات التركية العدوانية.
إن روسيا «الحالية» يقظة جدا في «مراقبتها» للمنطقة، ويعتقد «فاتح جاموس» أن روسيا تتفهم بعمق الدور «التركي» في المنطقة عموما و«بلاد الرافدين ـ الشام» خصوصا. ويسلط في تحليله الضوء على كتاب «داود اوغلو ـ العمق الاستراتيجي» وبأن ما يقوله «اوغلو» حول الدفاع عن «تراقيا الشرقية» وصولا للحقول «الروسية» هو تشابه لافت بين «الاستراتيجية الدفاعية الاسرائيلية» واستراتيجية «اوغلو» السياسية الجديدة. إن نظرية «اوغلو» في «تصفير المشاكل» مع جيران تركيا تشبه رؤية «ضفدع البئر» الذي يعرف كل شيء عن «البئر» ولا يعرف شيئا عن خارجه. وإذا كانت الولايات المتحدة «مترددة» كما يبدو، بخصوص حسم قرارها بتثبيت أو إجراء تعديلات جدية على «اتفاقية سايكس ـ بيكو» فإنها عمليا وفي ظل «ربيعها العربي» تتصرف بالضبط كما يقول الصحافي الاميركي «ريموند ستوك» في دراسته «الحمار والجمل وأضاليل فيس بوك ـ كيف استولى الإخوان على مصر» ان أميركا قد تحولت من جحا الذي لا يصدق حول «الحمار الذي سرقه» إلى «حمار» تمتطيه التيارات السلفية الخليجية المسلحة. إضافة إلى ذلك فإن أميركا بعد أن اتخذت، الادارة وليس المؤسسة، قرارها «الاستراتيجي» الجديد في بناء «منهج» مغاير كما يؤكد الديبلوماسي العتيق، تشاس فريمان، في محاضرته الأخيرة حول «تحديات الديبلوماسية الاميركية»، قد فقدت هي أيضا الفرص الناضجة لإيقاف طفو جثث انتكاساتها المتوالية على سطح الأحداث في المنطقة!
سياسي وكاتب عراقي
صحفية السفير اللبنانية