تركيا الجديدة.. كيف تخلص إردوغان من عسكر أتاتورك؟

 

من غير الواضح أين كانت واشنطن في مجمل حسابات التخلص من المؤسسة العسكرية، وهل أضاءت الضوء الأخضر لإردوغان في مهمته هذه؟

منذ قيام الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه العسكر في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923 بعد حرب الاستقلال التي دامت أربع سنوات، كان الجيش هو الأكثر تأثيراً في مجمل أحداث تركيا وفي أغلب الأحيان باسم الحليف الأكبر واشنطن التي كان لها باع طويل في هذه الأحداث.

فقد كانت تركيا وما زالت دولة حليفة لأميركا منذ وصول أول مدمرة أميركية إلى اسطنبول في نيسان/ أبريل 1946. وكان العسكر طيلة السنوات الماضية لسان حال الحليف الأميركي حيث نفّذ ثلاثة انقلابات عسكرية (1960،1971،1980) وتدخل في المرة الرابعة من دون انقلاب لإطاحة حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان في شباط/ فبراير 1997.

وجاء حكم “العدالة والتنمية” بعد انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2002 ليضع العسكر وحكومة “العدالة والتنمية” أمام تحديات خطيرة، وخاصة بعدما رفض البرلمان التركي في آذار/ مارس 2003 تفويض الحكومة السماح للجيش الأميركي باستخدام الأراضي والأجواء التركية خلال الحرب على العراق.

ولم يُخفِ بول وولفوويتز نائب وزير الدفاع  الأميركي آنذاك انزعاجه من موقف الجنرالات الذين لم يتدخلوا ضد الحكومة والبرلمان، كما لم يتأخر الأميركيون في الانتقام من الجنرالات، حيث أسر الجيش الأميركي 11 من العساكر الأتراك في مدينة السليمانية على نحو مهين كرسالة من واشنطن إلى المؤسسة العسكرية التركية التي أفل نجمها بعد ذلك التاريخ.

وجاءت الضربة الأولى في 12 حزيران/ يونيو 2007 عندما اتهمت النيابة العامة العشرات من الجنرالات ومن بينهم قائد الفرقة الأولى في اسطنبول بالتخطيط لانقلاب عسكري عام 2003. واستمرت محاكمة نحو 600 من الجنرالات والضباط المعتقلين لفترة طويلة من دون أن يحرّك الجيش ساكناً في هذا الموضوع، الذي تبنّاه آنذاك رئيس الوزراء إردوغان.

وجاءت الحملة الثانية التي قام بها، كحال الحملة الأولى، أتباع الداعية فتح الله غولان من القضاة ووكلاء النيابة ومعهم جهاز الأمن، الذي كان أداة فعالة في عمليات الاعتقال التي طاولت في الحملة الثانية (شباط/ فبراير 2010) نحو 400 من الجنرالات والضباط ومن بينهم قادة القوات المسلحة المتقاعدون وبعض من الفرق والألوية الذين اتُهموا هم أيضاً بالتخطيط لتنفيذ انقلاب عسكري ضد حكومة إردوغان. وجاء اعتقال رئيس الأركان السابق إيلكار باشبوغ في كانون الثاني/ يناير 2012 بمثابة الضربة ما قبل القاضية على المؤسسة العسكرية، التي بدأت تنتظر مصيرها المحتوم، وهو ما تحقق بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفّذها أتباع فتح الله غولن وأنصاره حلفاء إردوغان السابقون خلال حربه على الجنرالات العلمانيين.

واستغل إردوغان هذه المحاولة الفاشلة فتخلّص من آلاف الجنرالات والضباط وصفّ الضباط والعساكر، الذين قال عنهم إنهم متورطون في الانقلاب الفاشل. كما أنه  استغل هذا الانقلاب للتخلص من عشرات الآلاف من أتباع حليفه السابق غولن وأنصاره في الأمن والاستخبارات والقضاء وجميع مؤسسات الدولة ومرافقها من أعلى مستوى إلى أدنى منصب.

ولم يتأخّر إردوغان في تعيين أتباع “العدالة والتنمية” وشريكه في السلطة “الحركة القومية” في جميع هده المرافق والأجهزة وخاصة الجيش، الذي أصبح موالياً له على نحو مباشر عبر رئيس الأركان السابق خلوصي أكار، الذي اعتقله الانقلابيون ثم تركوه على نحو غامض، فجعل منه إردوغان وزيراً للدفاع.

أصبح أكار صاحب القرار الأعلى في المؤسسة العسكرية، وأعلن جنرالاتها الولاء لإردوغان الذي أحال خلال السنوات الأربع الماضية وبصفته رئيس مجلس الشورى العسكري أعداداً كبيرة من الجنرالات إلى التقاعد وعيّن بدلًا منهم الموالين له بعدما رقّاهم إلى رتب عليا.

لم يهمل إردوغان الضباط الصغار بعدما أغلق جميع الكليات والمدارس العسكرية وأسس بدلًا منها جامعة للدفاع الوطني وكلّفها إعداد الكوادر العسكرية الجديدة للجيش التركي، وعيّن بروفسوراً في التاريخ العثماني ومقرباً منه رئيساً لهذه الجامعة العسكرية المسؤولة عن قبول طلبات الشبان والشابات (بمن فيهم المحجبات) الذين يودون الانضمام إلى صفوف القوات المسلحة، وهو ما يتحقق لهم بعد امتحان مكتوب وآخر شفهي للتأكد من ميولهم السياسية.

وجاء استفتاء 16 نيسان/ أبريل 2017 أي قبل ثلاث سنوات ليساعد الرئيس إردوغان في مساعيه لإحكام سيطرته المطلقة على المؤسسة العسكرية المدعومة من المؤسسة الاستخبارية، حيث كان رئيسها هاكان فيدان ومعه وزير الدفاع خلوصي أكار إلى جانبي إردوغان في جميع لقاءاته مع المسؤولين الأجانب في تركيا أو خارجها. واستطاع إردوغان من خلال الاستفتاء، الذي قال زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو إن إردوغان زوّر نتائجه، أن يغيّر النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، ليصبح الحاكم المطلق للبلاد بعدما سيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها وأهمها الجيش. وكان الجميع يهاب جنرالاته وهم الآن تحت رحمة الرئيس إردوغان القائد الأعلى للقوات المسلحة ليس بصفته الدستورية فحسب، بل باعتباره صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في مجمل سياسات تركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي أيضاً. والأهم في ذلك تكليف الجيش تنفيذ مهمات خارجية في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر ودول أخرى من دون أيّ اعتراض من هؤلاء الجنرالات، وهو ما كانوا يفعلونه في الماضي.

فقد رفض رئيس الأركان الأسبق نجيب تورومتاي أمراً من الرئيس تورغوت أوزال عام 1991 لاجتياح شمال العراق بهدف ضمه إلى  تركيا، وقدم استقالته. وفشل أوزال آنذاك في تطبيق مخططاته الخاصة بالشمال العراقي، الذي تعدّه الأوساط القومية التركية داخل حدود الميثاق الوطني (الميللي) الذي أشار إليه الرئيس إردوغان أكثر من مرة خلال حديثه عن الشمال السوري والحق التاريخي القومي التركي في هذه المنطقة.

والجيش التركي منتشر في الكثير من مناطق الشمال العراقي كما هو في الشمال السوري من إدلب الى عفرين فأعزاز ثم الباب فجرابلس. كما أنه منتشر في شرق الفرات من رأس العين إلى تل أبيض، وحيث الحسابات العسكرية التركية الخاصة بوحدات حماية الشعب الكردية، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يقاتله الجيش التركي منذ 40 عاماً.

ولم يحالف الحظ الجيش التركي للتخلص من هذا الحزب ومسلحيه، وقد لقي أكثر من 30 ألفاً منهم مصرعهم في تركيا وشمال العراق، وهم الآن في شمال سوريا بعدد مضاعف. ويخطط إردوغان الآن لمواجهة مخاطرهم المستقبلية بدعم عشرات الآلاف من مسلحي الفصائل السورية المتعاونة مع الجيش التركي، وهو المسؤول عن تدريبهم وتسليحهم وتمويلهم.

ومن غير الواضح أين كانت واشنطن في مجمل حسابات التخلص من المؤسسة العسكرية، وهل أضاءت الضوء الأخضر لإردوغان في مهمته هذه بعدما قال البعض إن إضعاف الجيش التركي قد يكون جزءاً من المخطط الأميركي الأكبر وهو إقامة كيان كردي مستقل في المنطقة بعيداً من تهديدات عسكر تركيا، ولم يعد يهم جنرالاته سوى رضا الرئيس إردوغان، الذي تحمّله أحزاب المعارضة “المسؤولية عن كل أزمات تركيا ومشاكلها الداخلية والخارجية”، وتقول عنها “إنها باتت تمثّل خطراً استراتيجياً على مستقبل الأمة والدولة والجمهورية التركية بكل مؤسساتها”!

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى