تركيا العلمانية ـ الإسلامية: الفشل الباهظ
كانت تركيا مركز الخلافة الإسلامية، واسطنبول عاصمة المسلمين. حكمت وتحكّمت بالشعوب قروناً. ثم، ككل الأعمار، دخلت السلطنة في الشيخوخة. لقبت بـ «الرجل المريض». الحرب الكونية قتلتها وأبقت على خلافتها. كمال أتاتورك حذف الخلافة، وصار المسلمون بلا بوصلة، لأول مرة… في سنة 1924 أعلن أتاتورك قيام الجمهورية التركية، على غرار الجمهورية الثالثة في فرنسا.
باريس دشّنت علمانيتها الحاسمة المضادة لطبقة الكهنوت: لا تسوية مع الكنيسة. لتعش الكنيسة في دينها وطقسها، ولتترك السياسة والدولة. ممنوع على الكنيسة التدخل، بعدما كانت لقرون صاحبة الكلمة والسيف.
في باريس، تعلّم أتاتورك أصول العلمانية الأصولية. عاد إلى بلاده، كغيره من ضباط «تركيا الفتاة»، مثقلاً بتصور أيديولوجي علماني نقي. نفى السلطة الدينية ـ السياسية، وأقام الدين في حَجْر اجتماعي وثقافي. نسب إليه التخلف، وآمن بأن العلمانية هي الطريق إلى الحداثة.
هبت عاصفة الاستنكار. المسلمون بلا خلافة، كأنهم صاروا بلا إسلام. المسلمون الأتراك رفضوا. مصر تذمّرت. عُقد فيها مؤتمر (العام 1926) لإعادة الخلافة إلى نصابها في الإسلام وفي التاريخ. في هذا المؤتمر، أعلن محمد رشيد رضا أن مسعى أتاتورك، «محض كفر وارتداد عن الإسلام لا شبهة فيه».
لم تكن علمانية أتاتورك بريئة، كما لم تكن قوميته أداة جمع وربط. اعتمد زملاؤه الضباط في «تركيا الفتاة»، عندما تحكموا تحت «عمامة الخلافة الرخوة»، سياسة التتريك مع العرب، وسياسة الإلغاء مع الأكراد، وسياسة الإبادة مع الأرمن، وسياسة الإبعاد مع أرومات يونانية وبلغارية عريقة.
نزع أتاتورك الإسلام عن السلطة، واعتمد على «أسلمة الديموغرافيا». وفيما كان مفترضاً أن تنعم تركيا بقومية منفتحة، مبنية على مواطنة ومجتمع متعدد دينياً ومتحد قومياً، ويسيِّر شؤونه بحرية تصونها الديموقراطية، حدثت التصفية السياسية، وأقيمت ثنائية العسكر والعلمانية.
استبدّت العلمانية في تركيا. كانت العلمانية «عصا» في يد السلطة السياسية، المحمية بالقبضة العسكرية. قيل فيها: جيش علماني في مجتمع إسلامي متديّن. حصل ما يشبه ذلك تماماً مع «السلطات القومية» في البلاد العربية التي حكمت بقبضة العسكر وحذفت التيارات الدينية من حاضرها، واستطردت في الحذف، فألغت كل مَن لا يقول قولها ومن لا يردد شعاراتها ومن هو خارج حظيرتها، حتى ولو كان قومياً مثلها، وعلمانياً أشدّ منها، ووحدوياً بلا مهادنة.
العلمانية من فوق وبالقوة، تشبه «القومية» العربية من فوق، وبالآلة العسكرية… لم تكن الحقبة الكمالية مجدبة ثقافياً. أُخرج الإسلام السياسي من الحكم ومن المجتمع، وحضرت القيم الثقافية الحديثة والمفاهيم الجديدة وأصول الحياة المعاصرة، وحاولت أن تكون غربية لدى غرب، يخشى مُسلميها برغم علمانية النظام.
اختفى الإسلاميون من المشهد السياسي، ولكن الإسلام يعصى. حضوره أشد التصاقاً من العقائد المدنية والمذاهب الفلسفية وموجات التطور ومنافذ الحداثة. استُبعد الإسلاميون، فبات الإسلام ملجأ علنياً للصلاة، وملجاً سرياً للسياسات.
حدث من بعد أن قامت جدالات وحوارات، نأت عنها تركيا «الكمالية». عرفت مصر معارك فكرية ودينية. تبادل الطرفان الحوار وصراع الأفكار والعقائد. عرفنا ذات حقبة، طه حسين في «الشعر الجاهلي»، الذي رأى في القصص القرآنية نصوصاً لا يفترض حدوثها تاريخياً. فالنص القرآني شيء والحوادث التاريخية شيء آخر. كذلك عرفنا علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، بعد سنة من الإطاحة بالخلافة. فقد تجرأ هذا الشيخ على قول كلام غير مسبوق: الإسلام «دين لا سياسة ولا رسالة حكم، وروحانية لا دولة، وبلاغ مجرد عن التنفيذ»، فيما الدولة شأن بشري خالص.
لم يُحسَم القول في هذا الصدد. ما بين الإسلام والعلمانية شقاق كبير، يصل إلى حد التكفير. لا يستسلم الدين لمن يجرّده من مكتسباته ومن معتقدات المؤمنين به. جاء الرد سريعاً: «نشوء الإخوان المسلمين» وتصدُّر مقولتهم بـ «الإسلام دين ودولة»، وارتفاع مبدأ «الحاكمية» الذي أطلقه أبو الأعلى المودودي.
سجال دام قرناً سجل فيه العقل العربي فتحاً، لم يُكتب فيه النصر، لا لفريق العلمانيين ولا لفريق الإسلاميين. خطان فكريان لا يلتقيان. لا يتصالحان، وحالياً، يتنافسان في تركيا، ويقتتلان في «جحيم العرب».
لم تكن عودة الإسلاميين بأسماء مستعارة إلى الحياة السياسية في تركيا مفاجأة، باتت العلمانية سنداً هشاً للنظام. وقفت عند حاجز الديموقراطية، ولم تساهم في نقل المجتمع من حالة الولاء الديني إلى وضعية الولاء الوطني. العلمانية بالقوة أخفقت. الإسلامية بالسر، نجحت، بالتسلل أولاً، ثم بالفوز الديموقراطي ثانياً، فجاء رجب طيّب أردوغان، لينافس بإسلاميته وإخوانيته جمهورية أتاتورك العلمانية. حلُم بإعادة السلطنة من دون خلافة مستعجلة. حاول أن يكون خليفة «إخوانياً» بلا خلافة إسمية. دشن عودته إلى البلاد العربية، بعد هجر قسري دام قرناً. لكنه وقع في محظور الدم وفي المغالاة. صار «إخوانياً» في مصر، أكثر من «الإخوان» فيها. صار شقيقاً لقطر الإخوانية، ومعسكراً «لإخوان» سوريا، ثم لفرقها العسكرية. لم يترك نافذة إسلاموية إلا وأطلّ منها. أما في الداخل التركي، فقد قسم المجتمع قسمة عميقة بين علوي وسني وكردي وعلماني. ألغى الكثير من الحريات الديموقراطية لمصلحة حلم تهاوى بعد عقد. ليس في حزبه «حزب العدالة والتنمية» أي نائب علوي، ولا محافظ علوي… لقد فشلت العلمانية في تركيا بعد قرن تقريباً، وفشلت «الإسلامية» بعد عقد… والصراع مفتوح.
وكما في تركيا، كذلك في البلاد العربية. عاد «الإخوان» و «السلفيون» والتكفيريون، في أول فسحة ديموقراطية، أو في لحظة ضعف الأنظمة العسكرية بعد إعلان «الربيع العربي» عن قدومه، وإمكان تحوّله إلى أداة تغيير على مستوى الأمة والأقطار. الإسلام المختبئ، كان أقوى من الأنظمة التي جرفت المجتمع، عقلاً وحرية وإنسانية. لم يبق غير الإسلاميين، فتقدّموا الصفوف، قولاً وسيفاً. وها هو يفتك.
وكما حصل في تركيا ومصر، حدث في العراق وسوريا، فعاد الإسلام بعد سقوط صدام وبعد ضعف النظام في سوريا.
العلمانية لا تستطيع منافسة الإسلامية، إلا في مجتمع ديموقراطي. الحكم الاستبدادي، ولو كان علمانياً، يقزّم العلمانية ويضعها في موضع الشبهة. مجنون مَن يتصوَّر أنه بإمكانه منافسة الله ومنافسة الدين. الاتحاد السوفياتي أسقطته بولونيا بقيادة «البابا» في الفاتيكان. ليش فاليسا كان «كاردينالاً» ميدانياً، بقيادة بولس السادس. والإسلاميون اليوم، بأسمائهم المختلفة وعناوينهم المتعددة، يقودهم صحابة الرسول وخلفاؤه، بأسماء ذات خصوبة ميدانية وقتالية وتكفيرية.
حظوظ العلمانيين ضئيلة وغير مكلفة كثيراً. حظوظ الإسلاميين معدومة، وبكلفة دموية فائقة التوحش.
الانتخابات التركية أمس، أبعدُ من أن تكون جواباً عن الفائز فيها. فالخسارة مشتركة، وأفضل البدائل.. تسوية مؤقتة وتأجيل طويل للحل.
صحيفة السفير اللبنانية