تركيا والموصل: الغرق في التفاصيل مرة أخرى؟

تعيد الجلبة حول دخول الدبابات التركية إلى بعشيقة، التابعة للموصل، الأضواء إلى ما يُعرَف «بقضية الموصل». تبدأ سيرة الموصل مع الأشهر الأخيرة للحرب العالمية الأولى، عندما وقعت السلطنة العثمانية، التي خرجت من الحرب منهارةً ومتفككةً، «هدنة مودروس» في 30 تشرين الأول 1918 مع بريطانيا، التي كانت قد استولت على أكثر من نصف العراق باستثناء «ولاية الموصل» التي كانت تضمّ يومها كامل الشمال العراقي الحالي، وأجزاءً صغيرةً من شرق سوريا. ولكن وفقاً لـ «هدنة مودروس» وافق العثمانيون على أن تستسلم قواتهم للبريطانيين في كامل الأراضي العربية، وهذا بطبيعة الحال يشمل «مدينة الموصل» التي تشكل اليوم عاصمة محافظة نينوى، والتي تشكل بدورها جزءًا من الحدود التاريخية لما عرف يوماً بولاية الموصل. ولكن البريطانيين ارتأوا فهماً آخر للهدنة يشمل استسلام كامل «ولاية الموصل»، ولهذا هاجمت قواتهم ولاية الموصل بعد أيام قليلة فقط على توقيع «هدنة مودروس». وخلال أسبوعين فقط، سيطر البريطانيون على كامل الولاية، بحلول منتصف تشرين الثاني 1918.

لم يكن بوسع السلطنة العثمانية، وهي في حالة الضعف تلك، أن تفعل الكثير، لاسيما أن الهزائم كانت تتوالى على أكثر من جبهة، وليس فقط في الموصل. وفي المحصلة لم يعد أمام العثمانيين سبيلٌ للنجاة سوى توقيع «اتفاقية سيفر» في 10 آب 1920، والتي وافقوا فيها على التخلي عن الأراضي العربية كافة وعلى الاعتراف باستقلال أرمينيا وحق الأكراد بإنشاء كردستان والإشراف الدولي على الملاحة عبر المضائق التركية وسوى ذلك من التنازلات التي دفعت مصطفى كمال، والقوميين الأتراك، للانتفاض في وجه الموقّعين على الاتفاقية، من عثمانيين وأوروبيين على حد سواء. وبعد ثلاث سنوات من القتال، انتصر مصطفى كمال ورفاقه ونجحوا في إجبار الأوروبيين على الجلوس للتفاوض فكانت «معاهدة لوزان» في 24 تموز 1923، التي ألغت الكثير من التنازلات السابقة التي فرضتها «معاهدة سيفر». لكن شيئاً واحداً بقي معلقاً وهو مصير ولاية الموصل الذي طلب البريطانيون تأجيله، ليناقش بشكل مستقل خلال الأشهر التسعة التالية، لكي لا تفشل «مفاوضات لوزان» بالكامل.

وكما هو الحال دائماً مع البريطانيين، دهاة التفاوض والديبلوماسية، كان ذلك التأجيل هو ما احتاجوه لفرض واقعٍ جديد. فالمفاوضات التركية ـ البريطانية لم تبدأ إلا متأخرةً جداً، وسرعان ما ظهر أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم فأوقفت المفاوضات. وعرضت بريطانيا نقل مسألة الموصل إلى «عصبة الأمم» مع التلميح بأنها لن تقوم بتصديق «معاهدة لوزان» ما لم تقبل تركيا بذلك، وهذا ما حصل فعلاً. ولكن بينما كان يتم تدارس المسألة في «عصبة الأمم»، التي تحظى بريطانيا فيها بمكانة متميزة ونفوذ هائل، وقعت اشتباكات عدة مسلحة، بين البريطانيين والأتراك، على الحدود بين ولاية الموصل وتركيا. فضغط البريطانيون لترسيم الحدود، ولكن الأتراك الذين يطالبون بكامل ولاية الموصل وليس بترسيم الحدود معها، رفضوا وطرحوا القبول فقط برسم خط حدود مؤقت لتجنب الاشتباكات الحدودية. وبالفعل تمّ التفاوض على الخط الحدودي في العاصمة البلجيكية بروكسل والتي سيحمل خط الحدود اسمها، «خط بروكسل».

وبينما كانت تركيا تحاول العوم في بحر التفاصيل الديبلوماسية التي أغرقها البريطانيون فيها، اندلعت في شرق تركيا، وفي توقيت مفيد للغاية، انتفاضة الشيخ سعيد التي كانت تطالب بإحياء السلطنة العثمانية. وبينما لا توجد أدلة جازمة تثبت تورط البريطانيين في دعم تلك الثورة، إلا أن الأتراك فضلوا الرضوخ للأمر الواقع والقبول بقرار «عصبة الأمم» بتحويل خط بروكسل المؤقت إلى خط حدود دائم. وهكذا نجح البريطانيون في تصغير قضية الموصل إلى قضية خلاف حدودي تمت تسويته ضمن اتفاق ثلاثي، عراقي ـ تركي ـ بريطاني. وفي العام 1926 اعترفت فيه تركيا بتبعية الموصل لحكومة بغداد الملكية، وتعهّد العراق، وفق المادة 14 من الاتفاق، بتقديم عشرة في المئة سنوياً من كامل الإيرادات النفطية وغير النفطية التي تحصل عليها حكومة بغداد من الموصل خلال الأعوام الخمسة والعشرين التالية لتوقيع اتفاقية 1926.

وفي الحقيقة، وبرغم مضي حوالي 90 عاماً على توقيع تلك الاتفاقية، إلا أن هناك شكوكاً حقيقيةً حول الأموال التي حصلت عليها تركيا في النهاية. إذ تذكر بعض الدراسات أن تركيا، التي ربما لم ترد تكرار تجربة الغرق في التفاصيل، فضّلت الحصول على مبلغ خمسمئة ألف جنيه إسترليني، يُدفع دفعةً واحدةً، بدل انتظار حكومة بغداد لإحصاء واردات الموصل كل عام ثم حساب حصة العشرة في المئة الخاصة بتركيا.

إلا أن الثابت هو أن أنقرة اعتبرت أنها لم تحصل على كامل حقوقها المالية من واردات الموصل، إذ إن الحكومات التركية المتعاقبة أبقت بنداً ضمن واردات الميزانية يحمل اسم «عائدات نفط الموصل»، برغم أن شيئاً لم يكن يصل في الحقيقة إلى ذلك البند. إلا أن البند بقي موجوداً إلى أن ألغاه رئيس الوزراء التركي طورغت أوزال في العام 1986 كخطوةٍ لتحسين العلاقات مع العراق يومها.

إذاً، فقد استخدمت بريطانيا سياسة الإغراق في التفاصيل والالتفاف على الاتفاقيات، والاستفادة من الأزمات المستجدة ـ والكثيرة بطبيعة الحال في هذه المنطقة من العالم ـ لكي تنجح في دفع الأتراك للقبول بخسارة الموصل ذات الموارد النفطية الهائلة، وذات الموقع الاستراتيجي. الآن يبدو أن تركيا تستشعر أن فرصتها قد حانت للعب اللعبة البريطانية القديمة نفسها. هو الإغراق بالتفاصيل مرةً أخرى: هل القوات التركية في بعشيقة مسألة مستجدة طارئة أم قديمة وعادية؟ هل هذه القوات متطفلة غازية أم موجودة تحقيقاً لاتفاق سابق، ومع مَن كان ذلك الاتفاق؟ وهل يملك العراق القدرة على طرد تلك القوات أم أنها ستصبح أمراً واقعاً؟ وماذا يتوقع من مجلس الأمن أن يفعل: هل سيشكل لجنةً على نمط لجنة بروكسل التي رسمت الحدود التركية العراقية على نحوٍ مؤقت تحول دائماً؟ وهل يشكل «تنظيم الدولة الإسلامية»، أو الخلافات السياسية في بغداد، الفرصة المناسبة لفرض تطبيع الوجود التركي في الشمال العراقي؟ المرجّح هو أن التاريخ في الشرق الأوسط لا يملّ من تكرار نفسه.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى