تركيا وروسيا وكيفية عدم الافتراق بينهما (فيودور لوكيانوف)

فيودور لوكيانوف

في عام 2001 صدر للبروفسور أحمد داود أوغلو كتاب تحت عنوان "العمق الإستراتيجي: مواقع تركيا الدولية". وطرح المؤلف في كتابه تصورا مستقبلياً جديداً، مبدئياً، لسياسة بلاده الخارجية.
انطلق صاحب الكتاب من أن أهمية أي بلد في السياسة العالمية يحددها الوضع الجيوسياسي لهذا البلد بالذات و"عمقه التاريخي"، حسب تعبيره.
ورأى البروفسور أن تركيا تعتبر دولة فريدة من نوعها من وجهة النظر هذه، بفضل تواجدها في ملتقى عدد كامل من المناطق، والتقاليد الموروثة من زمن الإمبراطورية العثمانية التي جمعت تحت حكمها كل العالم الإسلامي عمليا في حينها، مما يجعل تركيا اليوم "دولة إسلامية عظمى". وتوصل أحمد داود أوغلو إلى استنتاج مفاده أن تركيا، أولا، مكتوب عليها أن تشغل وضعاً مركزياً في نظام العلاقات الدولية المعاصر، وثانيا، أن بلاده يتوجب عليها التقليل من تبعيتها للغرب والمنظمات الغربية عن طريق إقامة منظومة من التوازنات ومن ضمنها بناء علاقات متينة مع البلدان المهمة غير الغربية.
وقد تركت رؤية البروفسور المستقبلية انطباعاً قوياً لدى قيادة حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى سدة الحكم بعد مضي عام فقط على صدور الكتاب المذكور. وأصبحت نظرية "صفر مشاكل مع الجيران" التي طرحها أحمد داود أوغلو بعد تعيينه وزيرا للخارجية  التركية بمثابة "ذروة لنهوض بلاده السلمي".             
غير أن نتيجة سياسة "صفر مشاكل مع الجيران" كانت متناقضة للغاية، حيث لم يبق لدى تركيا اليوم، للمفارقات العجيبة، جيران  يمكن وصف علاقاتها معهم بأنها "إيجابية لا تشوبها شائبة"! فقد فضل العالم العربي عدم الانجرار وراء عرض أنقرة لوصايتها عليه أو الاحتذاء بنموذج تطورها، خاصة فقد تبين سرعان ما أن النموذج التركي غير قابل للتطبيق في ظروفها المحددة. كما خاب رهان أنقرة على السقوط السريع لنظام بشار الأسد واضطلاع تركيا بدور متصرف في شؤون سوريا جديدة في المستقبل. أما علاقات تركيا مع إيران التي نجح رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في تحسينها بشكل ملحوظ حتى الآونة الأخيرة، فقد تدهورت بشكل حاد بسبب الشأن السوري. كما ترك حادث إجبار الطائرة السورية القادمة من موسكو على الهبوط في مطار أنقرة للتفتيش تأثيراً سلبياً على علاقات تركيا مع روسيا.
وسألني بقلق باحث زميل من جامعة محلية التقيت به أثناء مؤتمر دولي في اسطنبول الأسبوع الماضي "هل سيؤثر حادث الطائرة، في رأيكم، على مسيرة العلاقات الروسية التركية ذات الأهمية البالغة بالنسبة للطرفين؟"
وقلت له بمنتهى الصراحة إن موسكو، في اعتقادي، لا تحبذ ذلك التطور، ولن تبادر إلى تضخيم تداعيات الحادث، إذا ما وقفت أنقرة نفس الموقف، بطبيعة الحال.
لقد انطلقت لدى إجابتي على سؤال الباحث التركي الزميل من حقيقة أن علاقات موسكو مع أنقرة شهدت نهضة عارمة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. ولم يقتصر الأمر على مشاريع ضخمة في مجال الطاقة، وإن كانت الشراكة بين أحد أكبر مصدري موارد الطاقة إلى الأسواق العالمية (روسيا) وإحدى أهم دول الترانزيت في القارتين الأوروبية والآسيوية (تركيا) تبدو طبيعية، وكذلك على حجم الأسواق والفرص الاستثمارية الواعد بشكل متبادل.
وهناك نقطة مثيرة تشير إلى وجود ملامح الشبه بين الدولتين، إذ لم تتمكنا رغم مشاركتهما على مر القرون في التاريخ والسياسة الأوروبية من الدخول في "نواتها"، حيث ظلتا مهمشتين من قبل تلك الدول التي كانت تعتبر نفسها من مكونات "أوروبا الحقيقية". والغريب في الأمر أن هذا الوضع يستمر على حاله حتى اليوم لأن الاتحاد الأوروبي يحافظ على المسافة الفاصلة بينه وبين كل من روسيا وتركيا، وإن كانت هناك فترة سعت موسكو وأنقرة خلالها ولو بطرق مختلفة للانضمام إلى أوروبا مؤسستيا، فيما ازدادت في الدولتين في الآونة الأخيرة مشاعر من التشاؤم بشأن نوايا الاتحاد الأوروبي تجاههما ورغبة خفية لإثبات جسامة خطيئة قيادة القارة العجوز حين أبدت استخفافها بهما.
وحتى الآن نجح الجانبان الروسي والتركي في ترك خلافاتهما حول المسألة السورية بعيدا عن مضمون علاقاتهما الأساسي. غير أن حادث الطائرة المدنية السورية الآنف الذكر التي أجبرتها طائرات سلاح الجو التركي على الهبوط قد يصبح نقطة فاصلة تهدد بإحداث أضرار بهذه العلاقات بصورة حتمية. فحسب مجلة "دير شبيغل" الألمانية، لقد كانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية هي التي نقلت إلى  أنقرة معطيات عن الشحنة المشبوهة المنقولة على متن طائرة سورية متوجهة من موسكو إلى دمشق عبر المجال الجوي التركي، وتحركت السلطات التركية على هذا الأساس بالذات. ورأى بعض المحللين في ذلك مخططا ماكرا يهدف إلى خلق وضع يستحيل تنفيذ أعمال البزنس العادية بين روسيا وتركيا في ظله لاحقا. ذلك أن واشنطن غير راضية ومنذ فترة بعيدة عن سعي تركيا التي كانت حتى الآونة الأخيرة من بين أعضاء حلف شمال الأطلسي الأكثر موالاة للولايات المتحدة والناتو إلى تطوير أنشطتها السياسية وغيرها في كل الاتجاهات وبصورة مستقلة بما في ذلك على صعيد بناء علاقات تعاون متميزة مع روسيا.
كما يدل تحرك أنقرة المكثف لدرجة توقيف طائرات مدنية على شيء آخر وهو أن تركيا غرقت بشكل عميق في مستنقع النزاع السوري بحصولها على نتائج بعيدة كل البعد عن التوقعات الأولية. فقد أخطأ واضعو الإستراتيجيات التركية في الحساب عندما قدموا توصياتهم إلى رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان الناتجة عن تقديرهم لآفاق بقاء نظام بشار الأسد "الضيقة"، بينما أبدى هذا النظام صموده أكثر مما كانوا يتوقعون. وإذ تعذر تبديل نظام الحكم في دمشق بسرعة،  أسفر النزاع السوري الطويل الذي لا يستطيع أي من طرفيه الحسم لصالحه على خلفية انفلات الأزمة وفقدان التحكم فيها تدريجيا، عن تنامي عدم الاستقرار.
وما يقلق تركيا على وجه الخصوص هو تزايد نفوذ حزب العمال الكردستاني في المناطق الكردية بسوريا وهو عدو السلطات التركية اللدود على مر العقود. ومن اللافت للنظر أيضا أن نسبة عالية من سكان تركيا، حسب نتائج مختلف استطلاعات الرأي العام، لا تؤيد فكرة إجراء عملية عسكرية في سوريا المجاورة. غير أن طريق التراجع مسدود على سياسي شعبوي قوي مثل أردوغان الذي يحاول تجنب مثل هذا الاحتمال بأي ثمن حتى لا يضيع هيبته. 
يذكر أن روسيا وتركيا تختلفان فيما بينهما في رؤية أسباب وعواقب النزاع السوري ولا يمكن توقع توصل الجانبين إلى أي حل وسط في هذه المسألة. ولكن لا بد من القول إن الأزمة السورية رغم كل أهميتها بالنسبة للوضع في الشرق الأوسط والمشهد السياسي الدولي أجمع، لن تدوم إلى ما لا نهاية لها. وفي ضوء تلك الحقيقة يجب أن تنصب أما القيادتين الروسية والتركية مهمة حيوية مشتركة ألا وهي الحيلولة دون أن تلقي الخلافات الحالية بين البلدين بظلالها على التعاون اللاحق بينهما.
من البديهي أن مصالح روسيا وتركيا لن تتطابق كليا أبدا نظرا لوجود تطلعات هائلة لدى الدولتين اللتين توجد لكل منهما تقاليد إمبراطورية في الماضي بينما تتقاطع مجالات تأثيراتهما المباشرة على الفضاء المحيط بهما. ولكن الوضع الدولي الجديد الذي يتصف بزوال حالات المواجهات النظامية السابقة، يشهد تنامي أدوار الدول الكبرى الإقليمية، بينما تمارس بلدان متوسطة في بعض الأحيان تأثيرا أكبر على سير الأحداث من الدول العملاقة. وتحتاج في ظله تلك الدول القليلة نسبيا التي تنتهج سياسة خارجية نشيطة ومستقلة، إلى نوع من تنسيق خطواتها فيما بينها، الأمر الذي يجعل ضرورة الحفاظ على الاتصالات البناءة مع أنقرة من بين المهمات ذات الأولوية بالنسبة لموسكو رغم كل التقلبات السياسية الجارية على الساحتين الإقليمية والدولية.

مجلة Russia in Global Affairs                 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى