تسوية أم جرعات مفرطة من العنف.. كيف سيتمكن البرهان من إنقاذ رأسه؟
يومًا بعد آخر تتجه الأوضاع في السودان إلى صراع صفري، ومواجهة طويلة الأمد ومفتوحة على كل الاحتمالات، بين داعمي المسار الديمقراطي والدولة المدنية من جهة، وما يُسمى بـ«التحالف الانقلابي» المُكوّن من الجيش النظامي بقيادة عبد الفتاح البرهان، ومليشيا «الدعم السريع» بقيادة حميدتي والحركات المسلحة المتمردة السابقة الموقعّة على اتفاق جوبا للسلام مع الحكومة الانتقالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 من جهة أخرى.
فمنذ البيان الأول للانقلاب في 25 أكتوبر 2021، والذي أطاح حكومة عبد الله حمدوك، وخرق الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة الانتقالية، لم يتوقف عبد الفتاح البرهان، عن إصدار القرارات والمراسيم التي تُكرّس سلطته وتفرض هيمنته على مقاليد الحُكم، والتي بلغت ذروتها في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، بإعلانه عن مجلس سيادي انتقالي جديد عيّن نفسه رئيسًا له، وهو ما اعتبره بعض المراقبين خطوة مثالية لإغلاق الطريق أمام أي تسوية سياسية من أجل إعادة الأمور نصابها إلى ما قبل 25 أكتوبر.
البرهان يحوّل المعادلة السياسية في السودان إلى لعبة صفرّية
«لم تلفح الجهود الداخلية والخارجية المستمرة في إيقاف عبد البرهان عن المضي قدمًا في إجراءاته؛ فقد ظل يصدر إجراءً تلو الآخر بسرعة كبيرة وكأنه يسابق الوقت، ومع ذلك فقد فشل حتى الآن، وبعد انقضاء نحو شهر عما سمّاها بالإجراءات التصحيحية، في إعلان حكومة بديلة».. هكذا يقول الباحث السياسي عمر حسنين لـ«ساسة بوست».
ويضيف عمر حسنين: «يواجه البرهان ضغوطًا رهيبة من الشارع؛ إذ أظهر المحتجون على عودة الحكم العسكري الشمولي بسالةً فائقة في المقاومة، ولم يستنكفوا أن يقدموا أرواحهم للحيلولة دون تمكن الاستبداد، فخرجوا في مظاهرات قدّرت بعض الجهات عدد المشاركين فيها بالملايين في العاصمة الخرطوم وحدها».
وشهدت الخرطوم، وبحري، وأم درمان احتجاجات عارمة دعا إليها تجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة الثورية، بالتزامن مع مظاهرات حاشدة في 30 مدينة أخرى، فيما عُرف في أدبيات الثوار بالمليونيات في أيام 25 أكتوبر، و13 و17 نوفمبر 2021.
وفي المقابل واجهت القوى الأمنية الاحتجاجات بعنف مفرط، إذ بلغ عدد القتلى 40 متظاهرًا فضلًا عن مئات الجرحى، وفقًا لبيانات متتالية للجنة أطباء السودان المركزية، كان آخرها يوم 17 نوفمبر إذ أكدت اللجنة مقتل 15 متظاهرًا في العاصمة الخرطوم وحدها، بينما اعتبرت الشرطة في مؤتمر صحافي، نظمته في 18 نوفمبر، ما يصدر عن اللجنة «محض تهويل» وأن العدد أقل من ذلك بكثير مؤكدة أنّ عناصرها تعرضوا لإصابات مُختلفة، فيما تعرضت بعض ممتلكاتها للإتلاف من طرف المتظاهرين، حسبما ذهبت إليه.
ويقول عمر حسنين: «إن استمرار الضغط الشعبي على التحالف الانقلابي بقيادة البرهان سيجعلهم يستخدمون جرعات مفرطة من العنف كما يحدث الآن، لكن هذا لن يؤدي إلى تراجع المتظاهرين كما يظنون، بل سيجعل الكثيرين ممن كانوا يفضلون الحياد يفكرون في الانضمام إليهم، وتدريجيًا وأمام الضغوط الداخلية والخارجية ومع الإرهاق المادي والمعنوي لقوات الأمن، سيضطر قادة الانقلاب إلى البحث عن تسويةٍ ما، تخرجهم من هذا المأزق، قبل فوات الأوان».
لا تفاوض.. لا شراكة.. لا تسوية.. لاءات الثوار في وجه البرهان
في لحظة الصراع السياسي الصفري تميل معادلة القوة في الغالب إلى حاملي السلاح بطبيعة الحال، لكن في المقابل إن الشارع السوداني أصبح أقوى وأكثر دِربة وخبرة في مقارعة العنف ومواجهته، إلا أن طرفي الصراع في السودان ذهبا بعيدًا في المواجهة، فعبد الفتاح البرهان وحميدتي وحلفائهما من الحركات المسلحة ذهبوا شوطًا بعيدًا في انقلابهم.
بينما تحرك داعمو المسار الديمقراطي المدني أشواطًا في الاتجاه المضاد، ورفع الثوار شعار (لا تفاوض، لا شراكة، لا تسوية)، مطالبين إنه بعودة الجيش والقوات الأخرى إلى ثكناتهم وإخلاء المجال السياسي للمدنيين فقط، مع ضرورة محاكمة من تورطوا في الانقلاب والقتل منذ ما عرف بمجزرة فض الاعتصام 3 يونيو (حزيران) 2019 التي ارتكبتها قوات مشتركة من الجيش ومليشيا الدعم السريع، وراح ضحيتها أكثر من 100 من المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش، وحتى آخر قتيل في مظاهرات 17 نوفمبر الجاري، ما يعني ببساطة، إطاحة قائدي الجيش والدعم السريع، عبد الفتاح البرهان وحميدتي من المشهد السياسي، بل محاكتهما والزج بهما في السجون، الأمر الذي يعقد المشهد أكثر.
كارتيلات المصالح تحكم.. هل يفكر العسكر في الوصول لتسوية؟
يقول الباحث السياسي بكري الجاك لـ«ساسة بوست»: «بالنظر إلى معادلة القوة والقدرة على التأثير، يتضح بما لا يدع مجال للشك أنّ هنالك تيارًا داخل التحالف الانقلابي يرغب في التوصل إلى تسوية، على أن تضمن التسوية استمرار المصالح الاقتصادية، والعمل خارج جهاز الدولة بالنسبة إلى القوات المسلحة والدعم السريع، ولذلك أتوقع أن يتحدثوا في الأيام القادمة عن التمسك بالوثيقة الدستورية، والعودة إلى الشرعية الدستورية».
ويوضح الجاك: «مثل هذه التسوية تضمن لهم عدم الخسارة، رغم القتل والسحل الذي يقومون به في الشوارع الآن، ومن المُرجح أن الخاسر الأكبر من أي تسوية سياسية محتملة هم الإسلاميون (جناح السلطة والمال) ومليشياتهم، فهؤلاء هم الذين يخلقون واقع الموت الآن، وهدفهم أن ذلك سيجعل من كلفة العودة إلى أية صيغة تسوية وشراكة مع المدنيين غير ممكنة، ويريدون تسويق ذلك للمجتمع الدولي»، متابعًا: «لكن توظيف العنف باعتباره فعلًا قسريًا لتوطيد الأمر الواقع سيقابل بفعل جذري في الشارع الرافض لأي تسوية، كما أن كل الدلائل تؤشر إلى أن تعدد مراكز القرار وتضارب المصالح هو ما قد يعزز سيناريو العنف».
ووفقًا للجاك، فإنه بالنظر إلى مكونات التحالف الانقلابي بقيادة البرهان فإننا نجده مكون مما يسمى بـ«كارتيلات عسكرية ذات مصالح اقتصادية عميقة» تتخفي وراء القوات المسلحة لاكتساب شرعية اجتماعية وأخلاقية؛ بجانب كارتيلات الدعم السريع وكارتيلات الإسلاميين بتنظيماتهم المسلحة من أمن، ودفاع شعبي، وجهاز الأمن الحالي الذي يسيطرون عليه، ويمثل القوة الأكثر تنظيمًا التي تهيمن على جهاز الدولة بالكامل.
وتابع: «أما الحركات المسلحة التي تتذرع بضرورة المحافظة على اتفاق جوبا للسلام لتبريرها البقاء ضمن التحالف الانقلابي، فإنها ستظل محض كومبارس في معادلة السلطة الجديدة، وحال تثبيت الانقلاب أركانه مؤقتًا عن طريق العنف المفرط، إن تمكن من ذلك، ربما سنسمع بتمرد لهذه الحركة أو تلك».
وأكد بكري الجاك أن «قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام 3 أكتوبر 2020، والمشاركة في الانقلاب، لا يملكون وزنًا عسكريًّا أو سياسيًا حقيقيًا، وما يقومون به في الوقت الراهن لا يعدو كونه يشبه دور (المُحلّل) الذي يحاول تقنين شرعية الانقلاب، وتحليل سلطة البرهان لبعض الشركاء الإقليميين الضامنين لاتفاق السلام»، حسب قوله.
هل ينجح الانقلاب في تجاوز الضغوط؟
يعاني انقلاب البرهان من ضغوط دولية كبيرة، خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي طلبت من إسرائيل، حليفتها وحليفة العسكر، التدخل لمنعهم من المضي قدمًا في إجراءاتهم والضغط عليهم للعودة إلى الوضع ما قبل الانقلاب، بحسب مصادر صحيفة هاآرتس الإسرائيلية، إذ أشار الكاتب بالصحيفة مايكل هاوزر توف، إلى أنّ تل أبيب تعمل من أجل الامتثال إلى طلب واشنطن بوجوب استعادة الحكومة الانتقالية المدنية في الخرطوم.
ومن جانبها قالت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، مولي فيي، خلال زيارتها الخرطوم من 14 إلى 16 نوفمبر الجاري، إنها التقت بجانب قائد الجيش كلًا من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك المحتجز قيد الإقامة الجبرية، ووزيرة خارجيته مريم المهدي، وبحثت معهما سبل استعادة مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد؛ الأمر الذي يُرجح احتمال العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021، وهذا ما يرفضه الشارع الثائر، ومن المحتمل أن حمدوك نفسه لن يتمكن من العودة إلى ذلك الوضع، خاصة أن مياهًا كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الوقت وحتى الآن، منها قتل المتظاهرين، واعتقال رموز المدنية في الحكومة السابقة، وتشكيل مجلس سيادي جديد بمعرفة البرهان وحده.
وحسب عمر حسنين فلو تمكن البرهان من تجاوز هذا المأزق بنجاح، فإنّ الساحة السياسية السودانية ستصبح حكرًا على المسلحين (الجيش، مليشيا الدعم السريع، والحركات المسلحة)، وبين هذه المُكونات تاريخ طويل من التناقضات وتضارب المصالح، ومع امتلاكها السلاح فالأرجح أن البندقية ستكون لغة الحوار المفضلة بينها، وهذا ما سيدخل البلاد في حرب أهلية ضروس ذات طابع قبلي وجهوي، لربما يفضي إلى تفككها وزواله.
مطلوب رئيس للوزراء.. الرهان على فرس معطوب القدمين
لم يتمكن الفريق عبد الفتاح البرهان من تشكيل حكومة جديدة؛ إذ رفض معظم المرشحين تولي المنصب، وأبرزهم وفقًا للتسريبات المتوفرة أونور أوشيك، أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم، وقبله كامل إدريس، الذي أكد عبر صفحته على «فيسبوك» أنه لم يلتق بالبرهان، ولم يوافق على رئاسة الوزراء، بل يطالب بإطلاق سراح كافة المعتقلين فورًا، ووقف إطلاق الرصاص على المتظاهرين.
بيد أن حظوظ الأكاديمي القانوني هنود أبيا كدوف، رئيس جامعة أفريقيا العالمية، بالخرطوم، في رئاسة الوزارة عادت مجددًا إلى الواجهة بعد تواتر تسريبات في وقت سابق عن زهده بالمنصب، إثر رفض حمدوك القاطع للعودة قبل استعادة المسار برمته إلى ما كان عليه قبل الانقلاب؛ ما يعني إجهاض جميع قرارات البرهان، ووضعه في حرج شديد، بيد أن المرشح كدوف، 77 عامًا المتخصص في قانون الأراضي والقانون العُرفي، لا يُحظى بقبول داخلي، بسبب كونه بلا تاريخ سياسي، وغير معروف لأغلبية السودانيين.
ويبدو أن الأمر كذلك بالنسبة للخارج؛ إذ وصف ألبرتو فرنانديز، القائم بأعمال السفارة الأمريكية السابق في الخرطوم، هنود أبيا كدوف عبر تغريدة على «تويتر» بـ«دمية الانقلاب»، وكشف أنه مثّل نظام البشير في قمة الأرض بريو دي جانيرو 1992 حين كان النظام في ذروة العار والعزلة، وأكد فرنانديز أن هنود أبيا كدوف كان مرتبطًا لفترة طويلة بالجامعة الإسلامية في ماليزيا، والآن يترأس جامعة أفريقيا العالمية الكيان سيئ السمعة في نظام البشير السابق.
وبناءً على هذه المعطيات، بالترافق مع الضغط الداخلي والخارجي، فإن إمكانية العودة إلى ما قبل انقلاب البرهان بتسوية ترضي جميع الأطراف تظل الاحتمال الأرجح، مع بقاء السؤال الكبير: من سيرضي الثوار على الأرض؟ خاصة أنهم عازمون على إطاحة الماضي السياسي بكل مكوناته، وتشكيل سودان جديد، بواقع جديد، ووجوه جديدة.
ساسة بوست