تشيلي في الزمن العربي (عبد الحسين شعبان)
عبد الحسين شعبان
ما آل إليه الوضع السوري يضع التجربة التشيلية بجميع جوانبها الإيجابية والسلبية أمام الباحث والمراقب، على الرغم من اختلاف الظروف ودرجة التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والأمر لا يخصّ سوريا وحدها، بل يتعلق بالحراك العربي ككل ومصير التحوّل الديموقراطي ومآلاته.
زرت سنتياغو وعدداً من المدن التشيلية وحاولت التعرّف على تجربتها ودراسة بعض ملامحها، ولا سيما فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية، وبعضها دوّنته في كتابي «كوبا ـ الحلم الغامض»، أما القسم المتعلق بالثورة في صندوق الاقتراع، فقد تناولته في كتابي «تأملات فكرية في الربيع العربي» في إطار مراجعة التجارب الدولية ومقارباتها العربية في ميدان العدالة الانتقالية، سواء تجربة بعض بلدان أميركا اللاتينية أو تجربة أوروبا الشرقية التي تراوحت بين فقه القطيعة وفقه التواصل أو تجربة جنوب أفريقيا أو تجربة المغرب أو غيرها من بلدان آسيا وأفريقيا.
لم يكن طريق تشيلي للتحوّل الديموقراطي سالكاً، لاسيما الانتقال السلمي، خصوصاً في ظل حكم دكتاتوري تسلطي، حيث كانت المجابهة تشتد بين السلطة ومعارضتها وبأساليب مختلفة، حتى تمكّنت الأخيرة ومعها المجتمع المدني وبدور إيجابي فاعل من الكنيسة من فرض إقرار دستور جديد في العام 1988 وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، وبالتالي تأمين الانتقال للديموقراطية، تلك القضية التي ظلّت استعصاءً في بعض البلدان العربية حيث تمترست الحكومات بالسلطة ورفضت تقديم أي تنازل للمعارضة، في حين كانت المعارضات تريد تغيير النظام دفعة واحدة، ولكن الحكومات عجزت من القضاء على المعارضة وتحطيم مقاومتها، مثلما لم تنجح المعارضات في زعزعة الأنظمة والانتصار عليها، حتى جاء ما سمّي بموجة الربيع العربي، استحقاقاً للتغيير الذي طال انتظاره وإن تجاذبته قوى مختلفة ومتباينة ولا يزال لم يستقر بعد أو تتحدد ملامحه بصورة واضحة.
ولعل تلويح كل من الموالاة والمعارضة بالقضاء على الآخر وإقصائه وتجريمه يجعل من العنف سيّد الموقف، بحيث يصبح السلاح هو المتحكّم باللعبة حتى النهاية، وإذا افترضنا فشل مشروع التغيير بعد احترابات ونزاعات مسلحة، خصوصاً إذا طالت، فكيف يمكن حكم شعب بعد خراب ودمار واقتتال وعنف وانتقام؟ وإذا افترضنا نجاح المعارضة في الإطاحة بالنظام القائم بواسطة السلاح والعنف، فهذا طريق لكسب السلطة وليس لبناء الدولة وحكم القانون، الأمر الذي يحتاج إلى تطور سلمي طويل الأمد، ومخرج تراكمي لتأمين التحوّل الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان وتحقيق العدالة، في عملية توافقية جديدة وعقد اجتماعي جديد، خصوصاً أن مجتمعاتنا العربية بحاجة إلى مشروع حضاري نهضوي يربط بين المهمات السياسية الديموقراطية بمهمات التحرر والاستقلال الاقتصادي والتحوّل الاجتماعي والتنمية.
وللحديث عن «تشيلي العربية» أو التجربة التشيلية للعالم العربي، يمكن استذكار أن الرئيس سلفادور الليندي زعيم الحزب الاشتراكي فاز ممثلاً عن اليسار المتحالف مع الحزب الشيوعي في الانتخابات العام 1970 في أجواء ديموقراطية نزيهة، الأمر الذي أثار غضب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي هـنري كيسنـجر، الذي اعـتبر فوز الليندي تهديداً للأمن القومي الأميركي، فكيف ليساري ومتحالف مع الاتحاد السوفياتي أن يلعب في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، وهي تخوض حرباً دموية في فيتنام، خصوصاً أن واشنطن كانت تعتبر أميركا اللاتينية بقضّها وقضيضها، باستثناء جزيرة كوبا المحاصرة، قاعدة للنفوذ الأميركي ولا تقبل وجوداً منافساً لها.
ولعلّ ما زاد الطين بلّة أن اليسار التشيلي والنظام الجديد أقدم على عدد من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد الولايات المتحدة ومصالحها في تشيلي وهو أمر لا تسمح به واشنطن، خصوصاً وقد يتكرر في دول القارة الأميركية، حيث سيكون بادرة ثانية بعد كوبا، ولاسيما عند تأميم قطاع المناجم وخاصة النحاس المشهورة به وإجراء إصلاح زراعي، حيث كان مثل هذا الأمر استفزازاً لشركات احتكارية أميركية عدة أيضاً، فاتجهت وكالة المخابرات المركزية الـ CIA وبالتعاون مع قوى يمينية معارضة للنهج اليساري، لترتيب انقلاب عسكري في شهر أيلول (سبتمبر) 1973 بقيادة أوغستو بينوشيه، حيث قتل الزعيم الاشتراكي الليندي في مبنى البرلمان وكبار القادة والمسؤولين وحُكمت البلاد بالحديد والنار.
وفي العام 1988 صدر دستور جديد وبموجبه تم خوض الانتخابات، خصوصاً بعد أن وصلت قوى الموالاة والمعارضة، إلى قناعة أن ليس بإمكان أي طرف إلغاء الطرف الآخر، في حين ظل الشعب ينزف بكثافة، وقد لعبت الكنيسة دوراً كبيراً في الوصول إلى هذه القناعة، عبر مغالبة النفس، تمهيداً للاعلان عن بقاء بينوشيه في موقعه العسكري لمدة 8 سنوات، مقابل إجراء انتخابات ديموقراطية حقيقية، وعندما فازت المعارضة شرعت بتطبيق مشروعها للعدالة الانتقالية، بتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة، وفتح ملف حقوق الإنسان وكشف الحقيقة وتعويض الضحايا وجبر الضرر وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية.
وقد حدّثتني الشخصية الحقوقية البارزة لاورا نوفا عن تجربتها كيف استطاعت الانتقال من المعسكر المناوئ لحكم الليندي والمؤيد إلى بينوشيه في العـام 1973، إلى معسكر الديموقراطية قائـلة: لقد شعـرت أن تشيلي بدأت تتجه نحو الدكتاتورية، ولهـذا أخذت أعبئ الناس ضد حكومة بينوشيه، وبسـبب ذلك خسرت عملي، وقد انضممت إلى الحركة الشعبية التي دخلت الانتخابات على أساس الدستور الجديد، وكان شعارنا «لا» وهي الكلمة السحرية التي أطاحت الدكتاتورية.
كانت معارضة حكومة بينوشيه على نوعين، فإما أن تتم الإطاحة به عبر العنف، وهنا كان يكمن خطر الحرب الأهلية، أو عن طريق صندوق الاقتراع، وهو الطريق الذي توحّدت عليه المعارضة، حيث فازت في 5 تشرين الأول (اكتوبر) 1988 بالأغلبية. حينها بدأ العدّ العكسي التنازلي لسلطة بينوشيه، الذي لوحق دولياً فيما بعد عند منتصف التسعينيات.
وعلى الرغم من إجراء تعديلات عدّة على دستور العام 1988، فإن بعض آثار الديكتاتورية وبُقعها السوداء ظلّت عليه، وقد ساهم الحوار والإجراءات الديموقراطية اللاحقة، في الحيلولة دون تمكّن القوى المؤيدة للنظام السابق من العودة ومن انتهاج طريق العنف مرّة أخرى. ولعلّ ذلك كان معياراً للنجاح الحقيقي، لاسيما بإشراك الخاسرين، والخاسر لم يذهب إلى السجن ولكن عليه التسليم بخسارته. أما شجاعة الفائزين فهي بعدم الانتقام أو الإكراه أو الثأر، وهو ما أكّداه لي في حواراتي معهما كل من جنيرو أريكادا ولاورا نوفا في إطار من المصارحة والشفافية والمراجعة، وما أيّدته لوسيا سبيلفيدا وإليزابيت ليرا، وجميع هؤلاء أكاديميون وناشطون احتلوا مواقع مهمة في إطار تجربة العدالة الانتقالية.
وفي هذه الأجواء تمكّن ائتلاف واسع بين قوى الوسط واليسار المعارضة لنهج بينوشيه من إنجاح مرشحه للرئاسة في التسعينيات، وفيما بعد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وذلك تحت شعار «الثورة في صندوق الاقتراع»، وهو طريق جديد اتبعته دول أميركا اللاتينية، حيث تمكن اليسار من القفز إلى السلطة في عدد من دولها، ولكن الديموقراطية السياسية ظلّت باستمرار بحاجة إلى تحوّلات ديموقراطية اقتصادية واجتماعية، بعد النجاح الذي تحقق على المستوى السياسي.
لقد استطاع حزب سلفادور الليندي الإشـتراكي والقوى اليسارية أن يحرزا النصر عبر صنـدوق الاقـتراع في كل من تشيلي في المرّة الأولى بقـيادة ريكاردو لاغوس وفي المرّة الثانيـة بقيادة السيـدة باشليه (Michelle Bachelet)، وفي فنـزويلا، فاز هوغو شافيز (Hugo Chávez) الاشتراكي اليساري بنبرة صاخبة، وفي الإكوادور فاز رافاييل كوريّا (Rafael Correa)، وفي بوليفيا فازت القوى الاشتراكية اليسارية بقيادة موراليس (Juan Morales) مثلما حازت القوى اليسارية على أغلبية المقاعد في البرلمان في باراغواي بقيادة لوغو منديز وفرناندو أرميندو (Fernando Armindo Lugo Méndez)، ولعلّ تجربة نيكاراغوا مثيرة للجدل، فقد وصل دانيال أورتيغا (Daniel Ortega) قائد الثورة الساندينية المسلحة سابقاً، إلى السلطة بعد غياب عنها 15 عاماً، بواسطة صندوق الاقتراع.
إنّ هذه التجارب الكبرى بحاجة إلى تأمّل ودراسة، لاسيّما من جانب الحركات التي سُمّيت ثورية في بلداننا العربية، وكيف تراجعت، ولماذا، وما هو أفقها؟ والأمر لا يتعلق بإعادة تطبيق النموذج، ولكن بهدف الإفادة منه دون استنساخ أو تقليد أعمى.
صحيفة السفير اللبنانية