تصاب الأمة بمصاب مسيحييها (عبد الإله بلقزيز)
عبد الإله بلقزيز
يحكى أن الرئيس الراحل حافظ الأسد طلب من بطريرك الروم الأورثوذوكس هزيم أن يعلن موقفاً من أحداث حماة، في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، فما كان من الأخير سوى أن رد بالقول: “أنت بهذا تدعوني، سيادة الرئيس، إلى خرق العهدة العمرية” . إذا صحت معطيات خبر الحادثة المروي، يكون بطريرك الروم الأورثوذوكس قد تجنب الوقوع في مطب اصطدام المسيحيين العرب بإخوتهم المسلمين العرب، الشركاء في الوطن والتاريخ، ولو كان الاصطدام باللسان . ولعله – إن صحت الحادثة – قال ما قال وهو يعاني الأكلاف الباهظة التي دفعها لبنان من اصطدامه الأهلي الذي بدأ في ربيع العام ،1975 ونذر الوقيعة بين أقباط مصر ومسلميها في عهد السادات وعهد مبارك . وإذا كان الخوف المشروع على الوجود والمصير (هو) ما ميز سلوك المسيحيين العرب، في المشرق العربي ومصر، فهو لم يكن عندهم خوفاً من إخوانهم المسلمين، الذين عاشوا معهم في أمان ووئام، ووصلت العلاقات بينهم – في أحيان كثيرة – إلى مصاهرتهم، وتسمية أبنائهم بأسماء الصحابة وقادة الفتوحات (حتى أن رجلاً من حجم مارون عبود اسمى ابنه البكر محمداً)، وإنما كان خوفاً من فعل مغرضين – من الخارج أو من الداخل – قد يستغلون التنوع الديني، في بلاد المشرق، فيسعون في تفجير علاقات التساكن والترابط التي جمعت بين أهل الوطن الواحد .
وليس صدفة أن يجتمع رأي القادة الروحيين للطوائف المسيحية العربية، في بلاد المشرق، مثل بابا الكنيسة القبطية الراحل (البابا شنودة)، وبطريرك الروم الأورثوذوكس هزيم، والبطريرك الماروني بشارة الراعي، وآخرين غيرهم، على وجوب التمسك بالعلاقة المسيحية – الإسلامية علاقة تساكن وتعايش، لأن ذلك السبيل الوحيد إلى حفظ الأوطان من خطر التفتت والتفكك، بل لأن هذه العقيدة التشاركية طاعنة في العمر – وتاريخية – عند المسيحية العربية . فالقادة الروحيون هؤلاء سليلو تقليد مسيحي عربي قديم في التمسك بالعيش داخل إطار العلاقة بين أتباع الديانتين، هم حفدة المسيحيين الأول الذين استقبلوا الفاتحين العرب بالأحضان، وفتحوا لهم ديار الشام ومصر لتخليصهم من الحكم البيزنطي، وحاربوا في جيوشهم لرد الغزوة الصليبية المقبلة من الخارج، وهم حفدة المسيحيين العرب النهضويين، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، الذين كتبوا تاريخ الثقافة العربية (البستاني، فرح أنطون . .) وتاريخ الإسلام ومدنيته (جرجي زيدان)، وطوروا اللسان والآداب العربية (فارس الشدياق، أديب إسحق، جبران، أبوماضي، ميخائيل نعيمة . .)، وهم حفدة القوميين العرب الأول، الذين أبدعوا – بشكل خلاق – الفكرة العربية في مواجهة الرابطة العثمانية، ثم إنهم صناع فكرة الجماعة الوطنية منذ عقود .
لم يصب المسيحية العربية أذى من المسلمين، لأن تعاليم دينهم تمنعهم من أن يمسهم أحد بسوء، ولأن تقاليد تاريخ التسامح في الإسلام تقدم لهم السوابق والمثالات التي بها تكون الأسوة ويكون الاقتداء، ولأنهم أبناء الأمة الواحدة، المتعددة الديانات والمذاهب، ثم لأن المسيحيين قدموا للأمة والوطن رموز العقل والثقافة والإبداع والوطنية، ناهيك عن أن المسلمين لم يصبهم أذى من إخوتهم المسيحيين العرب . لم يتأذ المسيحيون العرب إلا من الأجانب، منذ الغزاة الصليبيين القدامى وحتى الغزاة الجدد، وكانت أثمان الاذاية فادحة عليهم، وهل من فداحة وهول خطب أكثر من أن يقتلعوا من أرضهم وأوطانهم التي عاشوا فيها منذ مئات السنين؟ فلقد اقتلع ثلاثة أرباع المسيحيين الفلسطينيين من وطنهم نتيجة الغزوة الصهيونية، وسياسات التهويد والتضييق والقمع، فتشردوا في الجوار وفي أصقاع الأرض كافة، وهاجر قرابة نصف المسيحيين من لبنان خلال السبعة والثلاثين عاماً، منذ انفجار الحرب فيه بهندسة أمريكية – صهيونية، وما تولد منها من حروب فرعية انتقلت إلى داخل المناطق المسيحية في لبنان، بين قواها المتصارعة، واقتلع قرابة مليوني مسيحي من العراق بعد غزوه واحتلاله في العام ،2003 وتهجر عشرات الآلاف من مسيحيي سوريا من ديارهم نتيجة الأحداث التي تجري في البلد، وخوفاً من تصفيات دموية من جماعات متطرفة تتهمهم بموالاة النظام . . إلخ .
ورب قائل إن ما أصاب المسيحيين العرب من خطوب لم يكن، دائماً، من فعل قوى أجنبية تستخدم “الأقليات” في سياساتها تجاه المجتمعات العربية، وإنما أصابهم ما أصابهم من جماعات دينية (إسلامية) متطرفة، كما حصل للأقباط في مصر، وللمسيحيين في العراق، وكما يحصل اليوم لهم في سوريا، وإذا كان الاستدراك لا يخطئ الحقيقة، فهو قد يخطئ إذا ما نسبت اعتداءات هؤلاء المتطرفين إلى الإسلام . وكما أن المسلمين، أيضاً، أصابهم أذى في الأنفس والأموال من هؤلاء المتطرفين، يصيب المسيحيين العرب من جنون أولئك ما يصيبهم، فليس للدين، إذن، دخل في المسألة وإن سيق للتغطية، من قبيل فرض الجماعات الدينية المتطرفة الجزية على المسيحيين في الأحياء التي وقعت تحت سيطرة سلاحهم . وكما في البيئات المسلمة جماعات متطرفة، وجدت جماعات متطرفة نظير الأولى في البيئات المسيحية، وإلا ماذا نسمي المليشيات المسيحية في لبنان التي أعملت قتلاً في الفلسطينيين وفي اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين؟ وهل سنتهم الدين المسيحي بأنه السبب في إرهاب جماعاته المتطرفة؟
من حق المسيحيين العرب أن يخشوا على مصيرهم أمام هذه الأمواج من الضغوط الأجنبية على المجتمعات العربية لتمزيق روابطها الداخلية، وتفجير تناقضاتها الصامتة، وأمام هذا الطوفان غير المسبوق من التفكير التكفيري المتطرف والمسلح . ومن حقنا جميعاً، كمواطنين وكديمقراطيين، أن نخشى على مصيرهم الذي هو مصير مجتمعاتنا وسلمها المدنية . وعلى قضية المسيحيين أن لا تبقى مسيحية، تحملها عنهم قياداتهم الروحية، بل أن تصبح قضية عامة يحملها المسلمون حتى لا تصبح طائفية وإنما مسألة وطنية وقومية عامة . هذا هو المسلك الوطني والديمقراطي السليم الذي ينبغي أن لا نخطئ الطريق إليه .
صحيفة الخليج الإماراتية