تعميم نموذج لبنان على «الشرق الأوسط الجديد»
يكاد لبنان يتحوّل إلى النموذج الجاهز لما يُراد أن تكون عليه المنطقة العربية عموماً في ظل المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد.
ففي هذا الوطن الصغير، الذي طالما شكّل «مختبراً» للعقائد والأفكار وشعارات التغيير، يجري الغرب عموماً، والإدارة الأميركية خصوصاً استكشاف الاحتمالات المباشرة وربما العميقة أيضاً للارتداد المتواتر عن السياسة والتوغل في الصراعات الطائفية والمذهبية، وكذلك الإثنية والعرقية والجهوية وصولاً إلى القبلية.
بل إن هيئات وجمعيات وجماعات من الدارسين يتابعون منذ زمن تغذية التحولات والتطورات، السياسية والاجتماعية، التي أدت وتؤدي إلى تراجع الأحزاب العقائدية، وطنية، قومية وتقدمية لحساب التشكيلات الطائفية.
ولأن لبنان هو المختبر ففيه ومنه تستخلص الدروس وتحضّر الخطط للبلاد العربية الأخرى، بالاستناد إلى النتائج الميدانية في هذا الوطن الصغير المفتوح لكل الرياح.
ومع أن لبنان صغير المساحة، معدود السكان، إلا أن الوقائع التي تجري فيه، سواء أكانت مدبرة أو عفوية، تصلح لاعتمادها كعينة أو مؤشر على التحولات والتوجهات السائدة في المنطقة عموماً، وتأثير «الدول»، وبالذات الإدارة الأميركية، وبعدها «عرب النفط» بمعسكريهم السعودي (السلفي) والقطري (الإخواني) في ظل غياب الأحزاب العقائدية، وطنية وقومية وتقدمية متحدرة من الفكر الشيوعي.
[ [ [
ليس سراً أن مجمل دول هذه المنطقة على شفا حروب أهلية: سوريا بداية في ظل الصراع الدموي المفتوح بين نظامها ومعارضيه الذين تجد بعض فرقهم ومجموعاتهم العسكرية من يموّلهم ويسلّحهم ربما بأكثر من طاقتهم على الاستيعاب، ويدفع إلى صفوفهم عناصر القاعدة لكي يؤمّن توريط هؤلاء في «الحرب الأخيرة»، كما يزعم خبراؤه.
.. وها هي مصر في ظل حكم الإخوان المسلمين تتقدم بخطى حثيثة نحو الاشتباك الأهلي… إذ يبدو أن شهية الإخوان قد انفتحت على مداها ورأت في وصول قيادي منها إلى رأس السلطة فرصة تاريخية لا تعوّض، وهي ستتمسك بهذه السلطة مهما كلفت من مذابح وخسائر، أخطرها تشويه صورة ـ بل وتاريخ ـ مصر التي لم يُعرف عن أهلها القسوة والدموية، كما لم يأخذ عليهم المسلمون في العالم أجمع نقصاً في إسلامهم يتطلب تدخل الإخوان لتعويضه… ولطالما كان «الاعتدال» هو الطابع الغالب على إسلام مصر. وقديماً قيل عنها إن فيها ديناً ولا تعصب، في حين ينتشر التعصب في المشرق، ربما لأسباب تاريخية، أو ـ هذا هو الأرجح ـ لاختلاف المزاج وتأثير ترسبات الحروب على السلطة بالشعار الديني، بين المسلمين أنفسهم، وقبل أن يغزو الصليبيون المنطقة ثم بعد أن تمّ إجلاؤهم عنها.
كذلك فإن استعجال الإخوان في تونس الهيمنة الكاملة على السلطة قد أدخلهم في صراعات عديدة مع مختلف القوى السياسية والنقابية، حتى لا ننسى الاتحاد العام للعمال بكل تاريخه النضالي، هذا فضلاً عن التصادم بالشعار الواحد مع السلفيين، والذي يرى فيه بعض خبراء السياسة تصادماً بالواسطة بين وهابية السعوديين وإخوانية القطريين، وكلاهما مذهّبة. ويبدو أن الإخوان، الذين لهم هم أيضاً صلاتهم الوثيقة بالإدارة الأميركية، يتجاهلون عمداً بعض حقائق الحياة المعاصرة في تونس، وأخطرها دور المرأة التي أسقطت نقابها منذ نصف قرن أو يزيد… وهكذا تتبدى معركة الإخوان ضد وجوه التقدم في المجتمع التونسي أخطر مما كانوا يتصورون.
… والصراع الإخواني ـ السلفي أو السعودي ـ القطري مفتوح كذلك في ليبيا التي تحاول جاهدة التعرف على الدولة التي دمّر نواتها معمر القذافي وكان يظهر ضيقه من شعبها إلى حد أنه فكّر باستبداله والمجيء بشعب آخر يليق بالقائد.
أما اليمن فأمرها مع الدولة معقد جداً بعدما أعادها علي عبد الله صالح إلى حالها قبل الثورة، في ظل الإمام الخليفة أحمد حميد الدين، فجيشها لما يسلِّم بقيادة السلطة الجديدة برغم الدعم الأميركي المعلن ومعه الدعم السعودي وبالتالي الخليجي المذهّب… ثم أن النغمة الانفصالية عادت إلى الارتفاع في الجنوب، بالاستناد إلى مقولة استئثار الشماليين بالسلطة، حتى في ظل رئيس جنوبي يحاول جاهداً تغيير «جهاز صالح»، بينما يواصل الأميركيون بطائراتهم من دون طيار مطاردة من يُنسبون إلى «القاعدة»، في انتظار معركة الحسم مع الحوثيين المتهمين الآن في وطنيتهم بالادّعاء أنهم «إيرانيو الهوى» والتسليح.
لقد انهارت الأنظمة الديكتاتورية فعلاً، لكن المجتمعات التي شوّهها الطغيان وتركها مهمّشة منقسمة على ذاتها بحيث اتسعت المساحة للشعار الديني باعتباره الملجأ الأخير، تبحث عن «مخلّص» أو «محرّر» من طبيعة سياسية فيعز وجوده، خصوصاً مع اندثار العمل الحزبي الذي شوّهته السلطة بالاستيعاب أو بالمطاردة حتى انعدم تأثيره على السياسة أو كاد.
ألا يقدم هذا الواقع صورة مجسمة لهدف السياسة الأميركية: خلق شرق أوسط جديد، يتنكّر لهويته الأصلية، تائه عن طريقه إلى مستقبله، يهرب أهله من بعض أهله الذين قفزوا إلى السلطة بالشعار الديني، إلى الأجنبي… يتزاحمون على أبواب السفارات، كما فعل اللبنانيون منذ ثلاثين سنة أو يزيد وما زالوا يفعلون.
وتتبدى المنطقة الآن أشبه بصحراء، فكرياً وسياسياً، تفتقد هويتها وقضاياها الجامعة، مع أن عدوها ـ أعداءها ليسوا أشباحاً بل يعلنون عن أنفسهم كل يوم في فلسطين، ومن قبل في لبنان، وفي مصر وسوريا والعراق إلخ..
إن عدة المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد هي الصراعات خارج السياسة بين الطوائف والمذاهب والعناصر، التي تأخذ الجميع إلى طلب الوصاية والترشيد، لأن قياداتها أعجز وأقل كفاءة من أن تقدم نموذجاً صالحاً للحكم… وهذا منبع خطر التقسيم والتفتيت الذي يتهدد هذه الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً.
إن لبننة المجتمعات ستضعها على عتبة حروب أهلية مفتوحة..
وها نحن في لبنان نكاد نعجز عن تشكيل حكومة، ونهرب من الانتخابات النيابية إلى التمديد للقائم من النواب ثم من الرؤساء والقيادات العسكرية، من دون أن نتخلى عن الادّعاء أن لبنان هو «واحة الديموقراطية» في المنطقة والنموذج الفريد للحكم الرشيد.
مع ذلك سنظل نتطلع ـ عبر الصعوبة والليل الطائفي المذهب ـ إلى الغد الأفضل، بعيداً عن المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد.
صحيفة السفير اللبنانية