“توترات” شرق المتوسط: الحروب الممنوعة!
يتصاعد التوتر في شرق المتوسط بصورة غريبة ومريبة. ربما قبل عام لم يكن المشهد على ما هو عليه الآن. ليس من طرف إلا وهو منخرط ومتورط في الصراع على هذه المساحة المهمة من المنطقة والعالم.
المشكلة القبرصية كانت العنوان شبه الوحيد للتوتر في شرق المتوسط منذ الستينيات. ومع إسقاط معمر القذافي، بدأت المياه تعلو وتهبط، وتحولت ليبيا منذ عشر سنوات إلى ساحة مواجهة عامة إقليمية ودولية.
لكن منذ أقل من سنتين بدأ يتجمّع العديد من المشاهد التي تختزن احتمالات توتر عالية:
1- تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط في مطلع 2019، والذي ضمّ مصر وإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا. وقد استثنى المنتدى من عضويته تركيا التي رأت في هذا المنتدى حلفاً عدائياً يعمل على الإضرار بالواقع القانوني لتركيا ولقبرص التركية ومصالحهما الاقتصادية وعزلهما سياسياً.
2- تحركت تركيا لمواجهة هذا التحالف الاقتصادي – السياسي ضدها بدبلوماسية صامتة، عندما وقّع رئيسها رجب طيب إردوغان اتفاقاً مع حكومة فايز السراج في ليبيا في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. ونجحت تركيا من خلاله في ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع ليبيا بحيث تتصل المنطقتان وتقطعان البحر المتوسط مثل سيف من الشمال إلى الجنوب. وهو ما أربك حسابات الدول المنضمة إلى منتدى غاز شرق المتوسط، والتي كانت تخطط لمدّ خط أنابيب تصدير الغاز إلى أوروبا. وهو ما يعني، بعد اتفاقية إردوغان والسراج، أنها بحاجة إلى إذن تركيا، لأن الخط سيمر في المنطقة التركية الخالصة.
3- ولا شك في أن القضية القبرصية تبقى العود الأسهل القابل للاشتعال غب الطلب من كل الأطراف. فتركيا تعتبر أن قبرص الجنوبية لا تمثل كل قبرص، وبالتالي هي تنتهك حقوق الطائفة التركية في شمال الجزيرة عندما تنقّب عن الطاقة في المياه الإقليمية لقبرص التركية. ولو أن تركيا ارتضت بما يجري، لكان ذلك يعني الموافقة أيضاً على الواقع القانوني لقبرص وفقاً للنظرة القبرصية اليونانية، وهذا يمثّل وفقاً لأنقرة تهديداً للأمن القومي التركي نفسه، وليس فقط لقبرص التركية.
4- بإضافة الخلاف المزمن على تحديد حدود الجرف القاري والجوي بين تركيا واليونان فوق بحر إيجة وشرق المتوسط، فإن عوامل التوتر موجودة دائماً منذ العام 1993، عندما تنازع الطرفان حول ملكية جزيرة قارداق في إيجة. وغالباً ما كانت تحدث احتكاكات جوية وبحرية وحتى برية بين الطرفين، لكنها لم تصل يوماً إلى حرب مفتوحة.
5- لم يكن الاتفاق التركي- الليبي ليمر من دون ردّ فعل. فهو اتفاق مهم، وفي الوقت نفسه خطير. وقد ظهرت المفاجأة في السادس من آب/أغسطس الجاري عندما وقّع وزيرا خارجية مصر واليونان في القاهرة اتفاقية لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة لكل منهما في المتوسط. وأهم ما في هذه الاتفاقية أن المنطقة البحرية المشتركة بين مصر واليونان “تأكل” من المنطقة الاقتصادية المشتركة وفقاً لاتفاق إردوغان- السراج، بحيث تكسر السيف التركي المسلول من شمال المتوسط إلى جنوبه، ولا يعود من اتصال بحري بين منطقتي تركيا وليبيا. وهذا يمثّل إنجازاً نوعياً ثانياً وكبيراً لمصر واليونان في مواجهة تركيا، ويجعل اتفاقية إردوغان – السراج بحكم الفارغة ولا فائدة منها، بعدما نجح تهديد الرئيس عبد التفاح السيسي، في كبح جماح التقدم التركي تجاه خط سرت- الجفرا.
وفي هذا الإطار، ليس من طرف يمكنه القول إنه هو الذي يطبّق القانون الدولي للبحار والنهار. فالاجتهادات والتفسيرات متعددة، وأكبر مثال عليها الموقف التركي من مياه دجلة والفرات، وعدم اعتبارهما نهرين دوليين، بل مجرد نهرين تركيين يعبران الحدود إلى دول أخرى. وهو ما أدى إلى توترات بين أنقرة ودمشق وبغداد. والأمر نفسه يسري على اتفاقيات تركيا مع السراج واتفاقية مصر مع اليونان. لذلك، فمن المستبعد أن يتوصل الأطراف إلى اتفاقيات قانونية مئة في المئة، بل سيبقى ذلك رهن التوافق السياسي.
6- تنظر تركيا إلى التحالفات المعادية على أنها ردّ فعل أوّلاً على خطوة اعتبار “آيا صوفيا” جامعاً، بما تحمل هذه الخطوة من استفزاز واضح للمسيحيين في العالم. وتنظر ثانياً على أنها محاولة لحرمان تركيا نيل حصة من كعكة النفط والغاز في المتوسط، في وقت تتطلع فيه تركيا إلى إطفاء دينها الخارجي المقدر بـ 480 مليار دولار من خلال عائدات التنقيب في بحر إيجة ومياهها الإقليمية ومحيط قبرص التركية، فضلاً عن المياه الإقليمية الليبية. ولعل تركيا تحاول أن تمارس أيضاً سياسة إعاقة خطط الأعداء وإرباكهم، وصولاً إلى الحصول على حصة من الكعكة المتوسطية، ليس فقط مباشرة، بل كذلك عبر نقل ثروات شرق المتوسط إلى أوروبا عبر تركيا وليس عبر خطوط تمر عبر اليونان وإيطاليا.
7- وقد لوحظت النبرة المرتفعة لأنقرة ضد خصومها، ولا سيما فرنسا التي تحارب تركيا في شرق المتوسط، سواء في ليبيا أم في اليونان، وكذلك في لبنان حيث تُتهم أنقرة بدعم “جماعات متطرفة” في طرابلس، ما أدى إلى حرب زيارات ومساعدات بين تركيا من جهة وفرنسا ومصر والسعودية والإمارات.
وبدا لافتاً قبل يومين أن الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين علّق على تغريدة قديمة للمرشح الديموقراطي جو بايدن بأنه سيساعد المعارضة لتغيير إردوغان بانقلاب انتخابيّ أو بخيار انقلابيّ. وبدا واضحاً أن تركيا تحاول أن تكسب الولايات المتحدة إلى جانبها في المعركة الحالية مع اليونان وفرنسا والاتحاد الأوروبي، تماماً كما كسبتها إلى جانبها إلى حدّ كبير في ليبيا، بالتصويب على منافس ترامب في الانتخابات الرئاسية.
8- ويبقى الموقف الروسي متأرجحاً بين تركيا واليونان. فروسيا، وفقاً لواضع نظرية “الوطن الأزرق” التركي الأميرال جيم غوردينيز، لا تريد نشوب حرب في إيجة، لأنها تهدد اقتصادها، حيث يمر 65 في المئة من تجارة روسيا عبر مياه البحار. كما أن التأمين على السفن الروسية قد يرتفع ثلاثة أضعاف. ويعتبر غوردينيز أن الولايات المتحدة ليست إلى جانب انفجار حرب بين تركيا واليونان، لأن هذا قد يدفع بتركيا إلى الخروج من “الأطلسي”، وهو ما لا تريده واشنطن.
وعلى ذلك، تبدو القرقعة العالية لأصوات البوارج الحربية في المياه القريبة من لبنان وفي شرق المتوسط مجرد أدوات ضغط لا ترقى إلى حالة الصدام الفعلي الواسع أو حتى المحدود.
صحيفة الأخبار اللبنانية