تودوروف الذي استفزّه مفهوم ’’صراع الحضارات”
كان كلامها المُختزَل في محلّه عندما وصّفت مديرة عام الأونيسكو إيرينا بوكوفا الفيلسوف والمفكّر الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف (رحل في السابع من شباط/ فبراير 2017 عن 77 عاماً) بأنّه “إنسان حقيقي ومنظِّر سياسي ومفكّر وأديب وناقد، ستبقى معتقداته ومسيرته في حقول علوم اللّغة وتاريخ الأفكار، ولاسيّما في فترة التنوير التي تُعَدّ نقطة تحوّل في التاريخ البشري، مصدر إلهام مستمرّ للعديد منّا، ومحفِّزاً للتفكير… وكلّي إيمان بأنّه يمثِّل الإنسان الصادق بتعقيداته كلّها، وكان له نظرة ثاقبة للعالَم، واهتمام عميق بالعلاقة بين البشر جميعاً، رجالاً ونساء”.
لم يشأ تودوروف الذي عاش سنواته الأربع والعشرين في كنف النظام الشيوعي البلغاري، إلّا أن ينشقّ عن نظام الحياة الشمولي في بلاده، ويلتحق بعاصمة الأنوار باريس، ويصبح في ما بعد واحداً من أبرز فلاسفتها ومفكّريها المطروحين على مستوى عالَمي.
ولباريس في المحصّلة، الفضل الكبير عليه، إذ يعتبرها “عاصمة الفكر العالَمي” التي من خلالها يستطيع المرء أن يوصِل صوته حرّاً إلى العالَم أجمع؛ ولذلك لا يُمكن لهذه المدينة إلّا أن تظلّ في نظره مدينة التنوير وقيَم التنوير، على الرّغم من أنّ العديد من المفكّرين الحديثين، وبخاصّة الفرنسيّين منهم، يعاكسونه في هذا الرأي، ويعتبرون أنّ اعتقاد التنوير هذا، هو مجرّد وَهم اليوم، ولا يُمكن للوَهم أن يُنتِج غير الوهم.
أمّا هو فيردّ على هذا المنطق بالقول، إنّ التنوير ليس وثناً نقدّسه، وإنّما هو حراكٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ وثقافيٌّ واقتصاديٌّ وفلسفيٌّ ونقديٌّ ليس له علاقة بالمكان الباريسي اليوم، اللّهم إلّا برمزيّته التاريخية، والتي لا يُمكِن لها أن تتجدّد إلّا من باريس نفسها، من دون غيرها من عواصم الغرب الكبرى.
ومن هنا، فإنّ جمود عملية التنوير في الغرب، أو ارتكاسة انفجار تصاعده، هي ظاهرة غربيّة بعامّة حاليّاً، فأنّى تلفتَّ في هذا الغرب اليوم، تجد التراجع في سمت القيَم والإبداع على كلّ صعيد، وبخاصّة في ما يتعلّق بالسياسة والقضاء والعلوم الإنسانية والأفكار والنقد والأدب والشعر والتفلسف الجديد؛ ولذلك كان تزفيتان تودوروف من أوائل المفكّرين الغربيّين الذين تحدّثوا مبكّراً عن انهيار الديمقراطية في عقر دارها الأوروبي والأميركي.
فلقد حدس في كتابه “أعداء الديمقراطية الحميمون” (وخصوصاً بعد انهيار جدار برلين) بأنّ الديمقراطية الأوروبية والأميركية مهدَّدة من داخل أنساقها هي وسياقاتها هي، وما ظهور سطوة “الرأسمالية المتوحّشة”، وصعود اليمين الإيديولوجي المتطرّف، وبروز “الشعبوية الدهماوية”، وانهيار الطبقة الوسطى وثقافتها الخلّاقة في كلّ شيء، إلّا أسطع دليل على ذلك.
ورأى تزفيتان تودوروف أنّ الفوضى السائدة في العالَم الغربي اليوم، هي أخطر بكثير من حقبة قمع الحريّات الفردية والعامّة في الزَّمن الشمولي السوفييتي الآفل، ذلك أنّ النيوليبرالية المتطرّفة، والتي برّرت للرأسمالية المتوحّشة في كلّ شيء، سياسيّاً واقتصاديّاً وحتّى فكريّاً وثقافيّاً، هي المسؤولة عن هذه الفوضى، وهي التي أنتجت بدورها، على وعي منها أو من دون وعي..
لا فرق، الإيديولوجيات “الدينيّة الخلاصيّة القاطعة” على أنواعها، من “الإسلاموفوبيا”، إلى المسيحية المتطرّفة في الولايات المتّحدة وأوروبا (ظاهرة ما بات يسمّى بـ “الإرهابي الأشقر” في النرويج، والذي ينتمي إلى التيّار “المسيحي المُغلَق”) وحتّى ظاهرة البوذي – فوبيا التي تمثَّلت بوجهها الدموي المستفظَع مع الراهب البورمي “آشين ويراثو” ضدّ مسلمي بلاده، حيث أظهرته مجلّة “تايم” الأميركية على أحد أغلفتها الرئيسة تحت عنوان: “وجه الإرهاب البوذي”.
الغرب وثقافة الخوف
وأكثر ما استفزَّ الفيلسوف والناقد تزفيتان تودوروف مفهوم “صراع الحضارات”، الذي جاء به الأميركي صموئيل هنتنغتون؛ وقد وضع كتاباً من “وحي” هذا المفهوم السلبيّ بعنوان: “الخوف من البرابرة.. في ما يتعدّى صراع الحضارات”، قسّمه إلى فصول خمسة هي: البربريّة والحضارة، الهويّات الجماعيّة، حرب العوالِم، السابحون بين النقاط، والهويّة الأوروبيّة.
وعبر هذه الفصول الخمسة المؤلِّفة لكتابه، يتّجه تودوروف إلى هدفَين مركزيَّين، أولاهما دحض مفهوم “صراع الحضارات”، الذي طرحه هنتنغتون، وثانيهما تحديد الهويّة الجماعيّة للاتّحاد الأوروبي.
يعود تودوروف إلى مشهد تاريخ أوروبا القديم، شارحاً ومفنِّداً، ليصل إلى مفاهيم سادتها خلاله، مثل مفهوم البربريّة؛ ثمّ يتناول مفاهيم حديثة مثل مفهوم الثقافة والحضارة والهويّة الجماعيّة، ليتناول من خلالها بالتحليل المعمَّق الأزمات والحروب التي تقع بين بعض الدول الغربيّة المركزيّة وباقي العالَم؛ ثم يعمد إلى تفكيك الأطروحات التبسيطيّة ذات البعد الوظائفي السياسي، التي يعرضها هنتنغتون في كتابه “صراع الحضارات”، ثمّ يدحضها عبر نقدٍ تحليلي دقيق لمفاهيم البربريّة والحضارة والكونيّة والهويّة.
ففي القسمَين الأوّل والثاني من كتابه، يحدِّد تودوروف مفهوم البربري والبربرية بالعودة إلى المعاني المختلفة التي اكتسبها هذا المفهوم خلال التاريخ، بدءاً من بربري بمعنى أجنبي، ثمّ الآخر الذي يتكلّم كلاماً غير مفهوم، أي بما معناه بالعربية “يُبرْبِر بَرْبَرة”، ثمّ أسلوب العيش، بما فيه التوحّش بالمعنى المُطلَق، ثمّ الإنسان الذي لا يعترف بإنسانيّة الآخرين.
وهو ينطلق من مسلّمة مفادها أنّ البربريّة هي عنصرٌ قائم بذاته يدخل في تكوين كلّ إنسان. ثمّ يحدِّد مفهوم الحضارة المُناقِض لمفهوم البربريّة؛ فالحضاري بجماع رؤيته، هو الذي يتمتّع بـ”حسّ مُشترَك”، بالمعنى الذي يعتمده الفيلسوف كانط: “الإنسان القادر على الاعتراف بإنسانيّة الآخر”.
ويرى تودوروف أنّ الحضارة هي حالٌ يسعى الإنسان إلى الاقتراب منها، في الوقت نفسه الذي يسعى فيه إلى الابتعاد عن البربرية. والحال إنّ الأفعال لا الأشخاص في النتيجة، هي التي تكوِّن المسألة الحضارية. والمرحلة الأولى في التقدّم نحو الحضارة، هي الاعتراف بتعدّدية المجتمعات الإنسانية.
والخطوة الثانية هي القدرة على إصدار حُكم نقدي على الآخرين، في الوقت عينه الذي لا يغيب فيه إصدار حكم نقدي جدّي على الذّات، أي أن يعرف الإنسان نفسه من خارجها أيضاً.. وفي المحصّلة، إنّ ضمان المساواة في الحقوق والواجبات، يقرّبنا دوماً من الحضارة، ويُبعدنا دوماً عن البربريّة.
ويميِّز تودوروف بين الحضارة بصيغة الفرد والحضارة بصيغة الجمع: حضارات، التي يفضّل عليها مصطلح “ثقافات”، بمعناها المُستخدَم في علم الإتنولوجيا والدّال على خصائص الحياة الاجتماعيّة، وعلى أشكال التنظيم المكاني والزماني للمجتمع وأساليب هذا التنظيم، وعلى اللّغات والمعتقدات والمفاهيم في مجتمع معيّن، والتي تتضمّن تصوّرات ذهنيّة تقدِّم تفسيراً للعالَم.
فمن طبيعة الكائن البشري أن يمتلك ثقافة، والثقافة هي التي تبني إنسانيّتنا. والثقافات متنوّعة ومتعدّدة ومختلفة ومتغيّرة؛ والفرد يمتلك هويّة فردية، كما يمتلك هويّات جماعيّة، أي الشعور الحميم بالانتماء.
ويفرّق تودوروف بين الهويّات الثقافية المتعدّدة: الهويّة المدنيّة، أي الانتماء إلى بلد معيّن؛ والهويّة بوصفها انتماء إلى مشروع مُشترَك، إلى مجموعة قيَم، عادةً ما تكون ذات رسالة كونيّة. وفي رأي فيلسوفنا، أنّ هذه الهويّات في أوروبا انفصلت بعضها عن بعض اليوم، ولم تعُد مُتطابِقة في ما بينها، فأحد مواطني برشلونة، مثلاً، يُمكِن له أن يُعلِن انتماءه إلى الثقافة الكاتالونيّة وإلى الأمّة الإسبانية، وأن يحمل قيَم الاتّحاد الأوروبي، ولكن من أجل أيّ من هذه الانتماءات هو مستعدّ لأن يُضحّي بحياته؟!
في “حرب العوالِم”، وهو عنوان القسم الثالث من الكِتاب، يحلِّل تودوروف الجغرافيا السياسيّة المُعاصِرة تحليلاً نقدياً نافذاً، فيُفكِّك نظريّة هنتنغتون في صراع الحضارات، فإذا هي مُعاودَة لإطلاق السياسة في مسارٍ يسير فيه العالَم بالمقلوب، وتسير معه الثقافات إلى تدمير نفسها بنفسها. وينتقد كذلك المانوية، أي تلك النظرة السطحية إلى الأمور، وردّ الإسلام إلى الإسلامية والتوتاليتاريّة والإرهاب، موضحاً أن “الآخرين” ليسوا مختلفين “عنّا”، وأنّنا مثلهم، وهُم مثلنا. كما يوضِح أيضاً عبر تعريف التعذيب أنّ الدول الديمقراطية قادرة هي الأخرى على التعذيب الذي تُدينه، في حين أنّه “تعذيب مؤسّساتي”.
في القسم الرابع من كتابه، يدرس تودوروف ثلاث حالات أبطالها ثلاثة أشخاص، وهي: مقتل السينمائي تيو فان غوغ، مُخرِج فيلم “الخضوع”، الذي يروي فيه حياة آلي هيرسي، وهي المرأة التي كرَّست نفسها لمحارَبة الإسلام، والرسوم الكاريكاتورية الدانمركية وخطاب البابا بنديكتوس السادس عشر في راتيسبون في العام 2006.
عبر هذه الحالات الثلاث، يبيِّن تودوروف إلى أيّ مدى يؤدّي الجهل بالآخر والتعصّب وانعدام التسامح لدى كلا الطرفَين إلى العنف الذي يدينه هذا الطرف وذاك؛ كما يُبيِّن أنّ السلام يكون بالحوار وبالاعتراف بتعدّدية الثقافات، لا بالاعتراف بالتعدّدية الثقافية.
أمّا القسم الخامس والأخير من الكِتاب، وهو في الحقيقة لبّ الكِتاب وجوهره؛ فكأنّما المؤلِّف عرض أدواته التحليليّة وحدّد مفاهيمه وبسط قواعد تفكيره في أقسام الكِتاب الأولى لكي يصل في نهاية الأمر إلى وضع تعريف دقيق “للهويّة الأوروبيّة”؛ فهو يرى أنّ الاتّحاد الأوروبي هو واقع اقتصادي وقانوني إداري؛ ولكي يؤسِّس بناءه وعمله السياسي على قواعد صلبة، جرى التساؤل عمّا إذا كان تعزيز الهويّة الثقافيّة عملاً ضرورياً، أملاً في أن يجد الأوروبيون دعماً للمشروع الأوروبي، فيقتضي ذلك إعمال الفكر في ما عساه أن تكون الهويّة الأوروبيّة.
وهنا يُعيد تودوروف إلى الأذهان كيف حاول البعض في ما مضى أن يعثر على عناصر مكوّنة لتلك الهويّة، فيذكر فاليري، ثمّ روجمون، الذي استعاد التعريف الذي وضعه فاليري واستكمله على نحو أكثر دقّة: المسيحية، العقل، الدولة (أورشليم القدس، أثينا، روما) وفلسفة الأنوار (الفرد). أمّا تودوروف، فيرى أنّ التعدّدية هي التي تحدِّد هويّة أوروبا، وليس العناصر المُشترَكة: اللّغات المتعدّدة، الذاكرات الجماعيّة المتعدّدة.. موضِحاً أنّه باستثناء ذاكرة الحرب العالميّة الثانية، فإنّ تفسير الأحداث يتمّ بأشكال مختلفة باختلاف الدول، وأنّه يُمكِن بالتالي بناء ذاكرة جماعيّة أوروبيّة.. علاوة على ذلك، فإنّ الهويّة الجماعيّة، لا يُمكِن لها أن تُبنى من خلال ماضٍ مُشترَك، لأنّ الهويّة متغيّرة، رافضاً أن تكون هناك هويّة حاضرة على مدى الزَّمن، تهدف إلى تجسيد الماضي بحثاً في ذلك الماضي عن المثال المعاصر.
من جهة أخرى، ظلّت تستحوذ على اهتمام تزفيتان تودوروف، وحتّى آخر يوم من حياته، فكرة أنّ على البلدان الغربيّة المركزيّة، ألّا تجعل ثقافة الخوف تستبدّ بها، وتسوقها بالتالي إلى الشطط في ردّ الفعل، الذي يمكن أن يُدخلها بدَورها في البربرية الوحشية، التي تفترضها في الآخرين الذين تُحارِبهم بقسوة وتَذاكٍ مكشوف.
نشرة أفق ( تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)