تونس: هل بدأ خريف الحرية؟ (فؤاد غربالي)
فؤاد غربالي
في فترة قياسية، استطاعت النهضة إعادة إنتاج أساليب حكم بن علي في الإقصاء والاستيلاء. ما يحدث في مؤسسات الإعلام هو التجسيد الأكثر وضوحا لهذه الاستراتيجية.
انطلقت الثورة التونسية من مناخات القمع والإستبداد السياسي الذي خيم على تونس لأكثر من نصف قرن لتطيح ببن علي وتفتح لفئات واسعة من الشعب التونسي إمكانية الحلم بتونس جديدة تقطع فعليا مع طبائع الإستبداد السياسي والفساد الإقتصادي. إلا أن تلك الأحلام قد بدأت في التقلص والفتور، في عهد "الحكام الجدد" الذين أوصلتهم إنتخابات 23 أكتوبر2011 إلى السلطة. حيث يتبين أن ماسكي السلطة بقيادة "حركة النهضة " التي تتخذ من الدين الإسلامي مرجعيتها الإيديولوجية إنما يمارسون الحكم إنطلاقا من ذات مسلمات البراديغم أو النموذج الإرشادي الذي تأسست عليه البنية الذهنية للإستبداد والتسلط السياسي.
تعامل النهضة مع الخصوم السياسيين في المعارضة لا يزال يتم بذات المفردات والعبارات، وبذات السجل المعجمي، الذي كان سائدا في عهد بن علي من قبيل "المغرضين" و"المتآمرين" بل تنضاف إلى ذلك السجل عبارات من قبيل "جماعة الصفر فاصل" و"بنو علمان" و"الحثالة الفرنكفونية". ذات الأمر بخصوص تداخل الحزب الحاكم مع أجهزة الدولة الذي ميز نصف القرن الفائت من تاريخ تونس المعاصر. فحركة النهضة لم تتوانَ – غير مبالية بانتقادات المجتمع المدني- في التعامل مع أجهزة الدولة وفق ذهنية "القبيلة والغنيمة" التي أطنب المفكرمحمد عابد الجابري في وصفها حيث يتم بين الحين والآخر تعيين مسؤولين على رأس منشآت عمومية، إنطلاقا من منطلقات حزبية وولائية بعيدا عن منطق الكفاءة والإستحقاق، بغية تعبئة موارد الدولة لخدمة المشروع الحزبي لحركة النهضة، المتمثل تحديدا في إعادة أسلمة المجتمع، عبر إمتلاك أجهزة الدولة وتوضيفها لذلك. وهو مشروع ليس من السهل أن تتخلى عنه حركات الإسلام السياسي مهما أطنبت في الحديث عن قيم الحداثة والديمقراطية فهو حلمها القديم الذي دفعت من أجله الغالي والنفيس.
تبرز نية "الإستيلاء" هذه تحديدا وبشكل صريح في طريقة التعامل مع ما أضحى يسمى "بملف الإعلام" حيث يظهر أن الحكومة والأجهزة الحزبية لحركة النهضة تريد أن تكون الفاعل الرئيسي والأبرز الذي يرسم السياسات الإعلامية ويحدد توجهاتها العامة وخاصة في حقل الإعلام العمومي بعيدا عن مقتضيات الديمقراطية وحرية وإستقلالية المهنة الإعلامية. فالنية تتجه إلى إعادة إنتاج إعلام تعبوي يتوافق مع مقتضيات الأحزاب الشمولية التي تحبذ الخطاب الإعلامي الدعائي الذي يحجب الوقائع ويزيفها لصالح الطرف السياسي الأقوى المتستر سواء بحجة "الشرعية" أو "الأغلبية" وهي حجة باتت تعد من المنظور المعاصر للديمقراطية القائم على التشاركية مدخلا من مداخل ترسيخ الديكتاتورية وإحتكار السلطة.
إن المعركة السياسية، التي تجند فيها حركة النهضة الحكومة بوصفها جهازا تنفيذيا للدولة وذلك عبر التعيينات الحزبية لمديرين عامين على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية قصد خلق خطاب إعلامي موال، بقدر ما تعيق عملية الإنتقال الديمقراطي وتحرفه عن أهدافه، فإنها تحول أيضا دون تشكل الإعلام كفضاء عمومي، بالمعنى الذي يحدده الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، حيث يتجادل الفاعلون ويديرون صراعاتهم بشكل عقلاني وديمقراطي بعيدا عن منطق الإقصاء والعنف.
فهل بدأت إذا رياح الخريف تهب على الحرية التي جاءت بها الثورة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد زوبعة عابرة في الطريق الشاق والطويل نحو تونس حرة وديمقراطية.
ميدل ايست أونلاين