جايمس إلروي يفضح كواليس «بيرل هاربور»

انتظر قرّاء الكاتب الأميركي جايمس إلروي خمس سنوات لمطالعة رواية جديدة له. انتظار طويل كافأه عملاق الأدب البوليسي بعملٍ ضخم صدر قبل أشهر قليلة عن دار «كنوف» النيويوركية بعنوان «غدْر»، وصدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «ريفاج» الباريسية. تشكّل هذه الرواية الجزء الأول من رباعية جديدة حول مدينة لوس أنجليس، يتناول فيها الكاتب ظروف الضربة التي وجّهها سلاح الجو الياباني ضد أسطول أميركا الحربي في بيرل هاربور خلال الحرب العالمية الثانية.

هل من حاجة لتقديم إلروي؟ لمن لا يعرفه بعد، نذكّر بأن هذا الكاتب الذي وُلد في لوس أنجليس عام 1948، فقد باكراً- وبطريقةٍ مأسوية- والديه، وعاش مشرّداً أكثر من عشر سنوات اختبر خلالها جحيم الإدمان على المخدرات والكحول، قبل أن يمسك بحياته من جديد وينطلق في الكتابة. وهذا بالتأكيد ما سمح له بفرض نفسه كأحد أهم كتّاب الرواية البوليسية، وبتجديد هذا النوع الأدبي. استوحى معظم أعماله من تجربته الحياتية المؤلمة، ونذكر منها «رباعية لوس أنجليس» الأولى وثلاثية «عالم الولايات المتحدة السفلي». وسعى عبر هذه الأعمال إلى كشف الوجه الخفي والمعتم لأميركا.

يصعب تلخيص قصة «غدْر» التي تندرج ضمن روايات إلروي الأكثر طموحاً، والتي مزج فيها فصولاً من تاريخ أميركا الحديث، وقصصاً سوداء إلى أبعد حد، ونقداً لاذعاً للمجتمع الأميركي، ببراعة نادرة وبأسلوبه الجاف والعصبي الذي ساهم بقوة في شهرته. ما يمكن أن نقوله هو أن أحداث الرواية تنطلق في السادس من كانون الأول 1941، في لوس أنجليس، حيث نستشعر فوراً حالة الغليان التي كانت فيها هذه المدينة عشية ضربة بيرل هاربور، والكراهية الملموسة في شوارعها تجاه اليابانيين، ومناخها المسموم. أما المحرّك الأول للسرد فيأتي عن طريق اكتشاف شرطة المدينة، في اللحظة التي تقع فيها الضربة المذكورة، جريمة قتل يقع ضحيتها جميع أفراد عائلة واتانابي اليابانية، ما يدفع المسؤولين إلى تسليم التحقيق في هذه القضية إلى الرقيب دادلي سميث، آملين منه أن يفبرك مذنباً يابانياً لإغلاق الملف بسرعة.

ولكن ليس هذا ما يطمح إليه إلروي، الذي يستعين بهذه الحادثة لكي يسرد- على امتداد أكثر من 800 صفحة- ثلاثة أسابيع مجنونة تُرتكب خلالها أكثر الجرائم فظاعةً، وتنكشف فيها عنصرية أبناء لوس أنجليس وإدمان الكثير منهم على الكحول والمخدرات والجنس، نظراً إلى طبيعة هذه المدينة التي تبدو كعاصمة الانحراف بلا منازع.

ومن أجل إنجاز حبكته المذهلة في تعقيدها ومتانتها، يلجأ الكاتب إلى أكثر من ثمانين شخصية، بعضها لعب دوراً رئيساً في «رباعية لوس أنجليس» الأولى، مثل النقيب في الشرطة ويليام باركر الذي يسعى جاهداً للترقّي عبر التحرّي وملاحقة أبناء المدينة ذوي الميول الشيوعية، أو ما عُرف آنذاك بـ «الطابور الخامس»؛ والشابة الجميلة كاي لايك، عشيقة الشرطي العنيف لي بلاشار، التي يستعين باركر بها لاختراق الطابور المذكور، فتورّطه معها في قضية تقضي على طموحاته؛ والشرطي الفاسد والمجرم دادلي سميث الذي يشكّل شخصية مركزية في قضايا الفساد التي كان مسؤولو الشرطة والبلدية في المدينة ضالعين فيها، وهو يجهد للمشاركة في مخطط جهنمي يهدف إلى سجن جميع اليابانيين المقيمين في كاليفورنيا.

واللافت هنا أن جزءاً كبيراً من حبكة «غدْر» يرتكز على ذلك الفصل الأكثر فضائحية في تاريخ أميركا، أي قيام السلطات في هذا البلد، إثر ضربة بيرل هاربور، بسجن أكثر من مئة ألف ياباني أو أميركي من أصل ياباني في مراكز اعتقال، وبوضع اليد على أملاكهم وأموالهم. حدثٌ يسمح لإلروي بتقديم شخصية جديدة لقارئه، ونقصد هيديو أشيدا الذي يعمل في قسم الطب الشرعي في مفوضية الشرطة في لوس أنجليس، وهو الموظف الوحيد فيها من أصول يابانية. شخصية لامعة ومثيرة لن تلبث أن تنحرف بسلوكها، بعدما تشاهد ما يفعله بلدها «بالتبنّي» بأبناء وطنها الأم، فتضطر، بهدف تجنيب عائلتها السجن والتعذيب والعار، إلى مخالفة القانون، وتنزلق تدريجياً نحو الجانب المعتم من النفس البشرية.

باختصار، يستعين إلروي بهذه الشخصيات وشخصيات أخرى كثيرة، خيالية وواقعية، مثل جو كينيدي، والد الرئيس جون كينيدي، والمغنية الشهيرة بيتّي دايفيس، وأول مدير لمكتب التحقيقات الفيديرالي جون إدغار هوفر، ورئيس بلدية لوس أنجليس آنذاك فليتشير بورون، لانتقاد عنصرية أبناء وطنه وأخطائهم ونزعتهم الانعزالية حتى وقوع ضربة بيرل هاربور.

وفي هذا السياق، يؤسس الروي لسردٍ مبتكَر، لا يحتمل أي وقفة أو استراحة، بل يتقدم ساعة بساعة ليغطّي كل أحداث المدينة خلال زمنٍ قصير نسبياً (24 يوماً)، ضمن إيقاعٍ يمسك بأنفاسنا حتى نهاية الرواية، ويسمح لنا بالتعرّف عن كثب إلى تلك المرحلة السوداء من تاريخ أميركا.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى