«جدار حي» رواية الحب الفلسطيني غارقاً في الكراهية الإسرائيلية
كنت أنتظر صدور الترجمة الفرنسية لرواية «جدار حي» التي أحدثت في إسرائيل العام 2015 ضجة بعد منعها واتهام صاحبتها الكاتبة دوريت رابينيان بـ «تهديد الهوية اليهودية»، لأطّلع فضولاً، على قضيتها التي وصفتها الصحافة العالمية بـ «الفضيحة». وصدرت الترجمة الفرنسية أخيراً في باريس متأخرة قليلاً عن الترجمات العالمية التي بلغت العشرين، ولكن بعنوان آخر هو «تحت النجمة نفسها» (دار ليزيسكال2017)، وهذا التحريف في العنوان عرفته الترجمة الأميركية التي اختارت «كل الأنهار» عنواناً عوضاً عن «جدار حي». وعند صدور هذه الترجمة في أميركا، خصتها صحيفة «نيويورك تايمز» بمقالة في الصفحة الأولى، وفي ألمانيا لم تتوان انغيلا مركل عن إبداء إعجابها بالرواية بعد قراءتها بترجمتها الألمانية وأعلنت دعمها لصاحبتها.
كانت رواية «جدار حي» أحدثت عقب صدورها سجالاً امتد طوال سنة، بعدما قررت وزارة التربية الإسرائيلية منع إدراجها في الصفوف الثانوية واتهام صاحبتها بـ «الخيانة»، وذريعتها أن الرواية تشجع على الوحدة بين اليهود وغير اليهود في إسرائيل وتهدد الهوية الإسرائيلية، عطفاً على أنها تصوّر الجنود الإسرائيليين وكأنهم «ساديون» لا يعرفون الرحمة. ودعم اليمين الإسرائيلي هذا القرار بشدة وتمّ على أثره سحب الرواية من بين أيدي الطلاب الثانويين. وكانت لجنة من الأساتذة هي التي طلبت إدراجها ضمن برنامج اللغة العبرية، نظراً لما تتمتع به من جرأة وعمق في معالجة مسألة العلاقة بين الشخصيتين اليهودية والفلسطينية. لكنّ مثقفين وكتاباً وصحافيين إسرائيليين سرعان ما قاموا بحملة أخرى معاكسة آزروا فيها الروائية وانتقدوا قرار الوزارة وموقف اليمين المتشدد إزاء أي تقارب يهودي – فلسطيني. وصف الروائي الشهير أ. ب. يهوشواع الكتاب بـ «العمل الرائع والعميق»، وقال الروائي الإسرائيلي العراقي الأصل سامي ميخائيل: «هذا يوم أسود في تاريخ الأدب العبري». وكتب الروائي عاموس عوز مقالاً ساخراً في صحيفة «يديعوت احرونوت» قال فيه إن الأشد إلحاحاً هو سحب كتاب التوراة من البرنامج الثانوي، فهذا الكتاب فيه من العلاقات الجنسية بين اليهود والوثنيين، ما هو أخطر من كتاب دوريت رابينيان. لكنّ المنع هذا الذي ما لبث أن أخذ بعد الحملة صيغة أخرى، أشد اعتدالاً، زاد من مبيع الرواية حتى بلغ رقماً نادراً ما يبلغه كتاب أدبي في بلاد الاحتلال، وهو ستون ألف نسخة.
وفي منأى عن الضجة الذي أحدثها منع الرواية، تتيح قراءة «جدار حي» – بالفرنسية- الولوج الى عالمها الداخي والوقوف على الطابع «الإشكالي» الذي يسمها وهو أبعد من كونها قصة حب مستحيل بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني جمعتهما الصدفة في نيويورك لبضعة أشهر. أولاً لا تخلو الرواية من البعد الأوتوبيوغرافي، فالراوية التي تحمل اسم ليات هي الكاتبة نفسها والشاب الفلسطيني حلمي الذي تقع في حبه هو الرسام الفلسطيني المعروف حسن حوراني، والحكاية عاشتها فعلاً الكاتبة دوريت رابينيان خلال الأشهر القليلة التي أمضتها في نيويورك.
وتبدو الرواية ثانياً محكومة بوجهة نظر الراوية التي هي الإسرائيلية هنا، مما يعني أن الفلسطيني هو المرويّ عنه. وعلى رغم سعي الكاتبة الى حصر قصة الحب هذه في سياقها الوجداني الحميم بعيداً من التلميح المجازي، فهي لم تتمكن من تحاشي الوقوع في شرك الصراع الوطني المتمثل في الهوية المزدوجة أو المنقسمة، هوية الشاب الفلسطيني ابن الأرض وهوية الشابة الإسرائيلية التي تعد نفسها أيضاً ابنة الأرض، علماً أنها تنتمي الى الشعب الذي يوصف بـ «الجزار» جراء احتلاله فلسطين وتهجيره أهلها. لكنّ الروائية ظلت وفية للشاب الذي أحبته وهو الرسام حسن حوراني، وقد تعد الرواية في أحد وجوهها تحية له، خصوصاً بعد موته غرقاً في بحر فلسطين العام 2003 في التاسعة والعشرين من عمره . كان حسن (حلمي) الفلسطيني ودوريت (ليات) الإسرائيلية التقيا في نيويورك «الفسحة المحايدة»، ثم عادا هو الى رام الله ليقضي فيها غرقاً في بحر بلاده وهي الى تل ابيب المحتلة لتكتب فيها حكايتهما المأسوية بعد ما أصيبت بحال من الاكتئاب.
لم تحرّف الراوية الإسرائيلية ليات أو الكاتبة دوريت، شخصية حلمي أو حسن الرسام، بل حاولت أن تكون وفية له فقدمت رؤيته الى القضية الفلسطينية والى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهي تخالف تماماً رؤيتها وتنقضها، وهذا ما جعل الحوارات السياسية تطول في أحيان وتثقل جو الرواية. لم تكن قادرة على أن تتخلى عنه وأن تنهي حبها المجنون له، لكنها في الحين نفسه كانت تدرك أنّ بينها وبينه جداراً وأنها في لاوعيها تخشى هذا الحب الذي يمكن أن يسمى «السلام» فهي، مثلها مثل شعبها الذي احتل الأرض الفلسطينية، تحتاج الى هذا الخوف، الخوف من الآخر الذي يجب أن يظل الآخر. وتقول في هذا الصدد: «خرج اليهود من الغيتو لكن الغيتو لا يمكنه أن يخرج منهم. هل ممكن أن فشلنا في صنع السلام يأتي من حاجتنا الى الخوف من هذا السلام؟ إلا أن حسن حوراني لن يرضى لو توفر له أن يقرأ الرواية، عمّا تحدثت عنه دوريت، من تشابه بينها وبينه، وهو التشابه بين الفلسطينيين والإسرائيليين كأن تقول: «لقد اتضح لي الى أي حد نحن متشابهون، الإسرائيليون والفلسطينيون… نحن نتقاسم المناظر نفسها، الغذاء نفسه، لغة أجسادنا هي نفسها، المزاج هو نفسه… حتى لغتانا شقيقتان». لن يقبل حسن الرسام الموهوب والمتعلق بأرضه بأن يقاسمه هذه الأرض عدو احتلها وطرد أهلها وهو يظل في نظره المغتصب الطارئ الذي لن تصبح الأرض أرضه مهما طال احتلاله. وتقول دوريت: «إن تربيتنا وكذلك إعلامنا يضعان كل الفلسطينيين في كيس واحد: إننا ننظر اليهم جميعاً كإرهابيين وهم لا يجدون فينا سوى جنود مسلحين». وهذا أمر واقع ما دامت الدولة المحتلة تمارس نوعاً من الفصل العنصري بين أهل الأرض وأهل الاحتلال.
حكاية الحب المستحيل هذه ترويها إذاً الراوية الإسرائيلية ليات التي هي الكاتبة نفسها دوريت، أي من وجهة نظرها، جاعلة من الرسام الفلسطيني حلمي شخصية من الشخصيات ولو كانت رئيسة، ما يعني أن الفلسطيني مأسور بوجهة النظر هذه، المنحازة. ولئن بدت الكاتبة دوريت «ديموقراطية» وأمينة على بطلها أو حبيبها فهي لا تستطيع أن تفسح له حيزاً واسعاً من الحرية ليبدي آراءه الحقيقية في القضية الشائكة وليعبر عن مأسوية التجربة التي خاضها هو وشعبه منذ احتلال فلسطين حتى الآن. وقد يكون هو أجرأ في حبها بصفته الضحية التي لا يمكنها أن تنسى أنها ضحية، بينما هي التي تنتمي الى قبيلة الجزارين تظل أسيرة شعور بالذنب والخوف لوقوعها في حب شاب هو عدو لها. الضحية حرة أكثر من الجزار. الجزار مكبل بعقده وآثامه. لكنّ هذا لا يعني أن الراوية أو الروائية الإسرائيلية لم تقع حقاً في حب الشاب الفلسطيني في نيويورك أي في المغترب أو المنفى، وأنها حملت معها هذا الحب الى إسرائيل لتصاب هناك بحال من الاكتئاب شبه المرضي. في بلاد الاحتلال، لن يمكنها أن تتواصل مع حبيبها المقيم في فلسطين على رغم المسافة القصيرة التي تفصل بينهما: «الشهر المقبل في الصيف، يصبح حلمي في رام الله، وأنا غداً أسافر الى إسرائيل، تل ابيب. فقط سبعون كيلومتراً تفصل بيننا». لكنّ هذه السبعين كيلومتراً مملوءة رعباً وقسوة وقتلاً وكراهية…
كانت الراوية ليات تخشى أن يفترسها حبها لحلمي، فهو افتراس الفلسطيني لها كإسرائيلية. الإنسان الذي فيها هو الذي يحب، هذا صحيح، لكنّ هذا الإنسان لا يمكنه إلا أن يكون إسرائيلياً، فكل ما من حوله وفي أعماقه يدعوه الى أن يكون إسرائيلياً: الذاكرة، اللاوعي، الوهم المنتصر، الأهل، العائلة، المجتمع… وفي إسرائيل دولة الاحتلال ممنوع الحب «المزدوج الجنسية» ولا يمكنه إلا أن يكون حباً عابراً وخارج حدود الاحتلال. وعلى رغم الحب العاصف أقامت الحبيبة الإسرائيلية جداراً في نفسها لتحمي نفسها من هذا الحب. تقول الروائية: «خطرت لي فكرة غريبة: هذه الصورة الجميلة والحية عنا كلينا، ستبقى محفورة في هذه المرآة المضطربة والمهتزة. حتى بعد انفصالنا، عندما يسلك كل منا طريقه، ستبقى صورة لشخصين ليسا سوى طيفين». وعندما عادا، غرق حلمي في بحر فلسطين. أما ليات التي وقعت في الاكتئاب فهي ما لبثت أن نهضت لتكتب عن انتصار اللاحب في زمن الكراهية الإسرائيلية.
صحيفة الحياة اللندنية