جماليات الرواية الجديدة
سألني أحد هواة القراءة عن مقومات الرواية، أو المواصفات التي تجعلك تحكم أن هذا عمل روائي ناجح.
لم أكن مستعداً للإجابة عن هذا السؤال، ولكنني وجدت نفسي أقول له بدون تحضير؛ إن أهم مواصفات الرواية الجيدة، احتواؤها على قصة، فأية رواية ليس فيها قصة تعتبر بلا روح أو أنني أرى روح الرواية في قصتها، أو القصص التي هي محور السرد. وقلت له: مهما كان انشغالك في العمل، فلو قلت لك: “دعني أحكي لك هذه القصة..”، فإنك تتوقف عن عملك، لتسمع القصة. القصة تشد المتلقي. وهي روح الرواية.
ومن أهم مقومات الرواية؛ اللغة الجميلة. فنحن نكتب الرواية باللغة. واللغة العربية الجميلة تشبه القمح الطازج الذي يُطحن، فتصنع منه فطائر الحلوى، وسائر المعجنات والخبز الشهي. هكذا يستخدم الروائي المبدع، عجينة اللغة، فيُبهرُها ويُشكلها، ويُجسِّمُها، لتكون أداته الأهم في صناعة الرواية.
ومما يلهب مشاعر قارىء الرواية، ويجعله يتابع القراءة بشغف، هو الخيال. الخيال، ذلك الضباب الصوري، الذي يجعل القارىء يتوه في أبعاد ليست لها أبعاد. ويشاهد مرئيات لا ترى، ويشعر بمشاعر لا يشعر بها الناس العاديون. الخيال هو الذي يجعل الحياة جميلة المحيا، مزركشة الألوان، شهية الروائح، عذبة النغمات. والذي بدونه تكون الحياة جافة ومقيتة ومملة.
الخيال مثل الضباب الذي يجعل من لندن، مدينة الضباب، جميلة عند أغنياء العرب، الموجوعين بجفاف الصحراء وحرارتها – ذلك الضباب – غشاوة وضوح الرؤية، الذي يغبش الصورة في عز الوضوح، ويرطبها في عز الجفاف، ويبردها في عز الحر.
الخيال الذي يبث الروح في العدم، ويجعل الحبيب البعيد قريباً، والجو المكفهر سعيداً. وهو في الوقت نفسه، على العكس من ذلك، الذي يدب الرعب في المكان الآمن، فيخلق روايات الرعب في المكان الساكن، ويخرج الجن والشياطين والمردة من جحورها، لتملأ الفراغ، وهو بهذا إنما يزيل الملل من روح القارىء، ويجعلها مشغولة بحركات شيطانية، تخلق له جو “الفوضى الخلاقة”.
الخيال هو بلا شك من أهم مقومات النص الروائي.
ولا شك أن الرواية تشهر جمالياتها، التي هي أدواتها لجذب القارىء، وجعله يتورط في القراءة، فلا كتابة روائية من دون جماليات، تخلق من العمل الروائي تحفة رائعة، أو جسداً جميلا، ذا مواصفات تدهش القارىء. نعم، الإدهاش هو أهم مميزات الرواية الناجحة.
ومن الضروري أن تقدم لنا الرواية معلومات جديدة، تفيدنا، وتوسع مداركنا، وتنبهنا لما نجهله، فتكون مصدر معرفة لنا في هذه العقود التي صارت فيها الرواية مصدر معرفة لا يستهان بها، ولا يمكن تجاهلها.
ومن المتعارف عليه أن الرواية الجيدة، هي التي تطرح فكراً جديداً. فكراً يثقف القارىء، ويجعله ينشط للبحث عن تفاصيل هذه القضايا التي أثارتها الرواية. قضايا قد تكون علمية، أو تاريخية أو سياسية أو وطنية، أو فنية، أو غير ذلك.
ومن جماليات الرواية، تلك التي تقدم رؤيا جديدة. رؤيا لم ننتبه لها. رؤيا نختلف معها، ولكننا نسعى للتعرف عليها. مثل رؤيا الآخر لقضيتنا. وجهة نظر الآخر. الرأي والرأي الآخر.
ومن الضروري أو المتوقع في الرواية التي نسعى لقراءتها، أو كتابتها، أن تثير أسئلة. تفجر أسئلة تجعل القارىء يتساءل: صحيح .. لماذا..؟ صحيح.. أين..؟ صحيح.. كيف..؟ صحيح متى..؟ صحيح.. من ..؟
أسئلة لم تكن تخطر على بال القارىء. أسئلة تورط القارىء في القضية مدار السرد. وتجعله شريكاً في الجريمة. شريكا في المتعة. شريكاً في الذنب. شريكاً في التفاؤل أو التشاؤم. شريكا في الربح أو الخسارة. شريكا في الألم، أو في الأمل.
والرواية الجيدة هي التي تنقلنا إلى عوالم جديدة. عوالم لم نكن نعرفها. تنقلنا إلى عالم شديد البرودة، بينما نحن نعيش في عالم شديد السخونة. عالم بعيد التطور بينما نحن نعيش في عالم شديد التخلف. عالم بالغ البذاءة بينما نحن نعيش في عالم بالغ الطهر، أو عكس ذلك تماماً، فنجد أنفسنا قد تطهرنا من الرجس الذي نعيش فيه، أو تلوثنا في عالم مدمر بينما نحن نحرص على تحقيق البيئة النقية الجميلة. هذا النقل للاتجاه المعاكس هو الذي نسعى له حين نقرأ رواية، أو نريد كتابة رواية.
والرواية الجميلة، هي تلك الرواية التي تسعدنا بمتعة السرد. أسلوب السرد. سواء كان ذلك؛ خفة دم السارد، وبراءة الصور المسرودة، أو جلافة، أو خشونة، أو قسوة قلب الشخصية المصورة مسرودة.
ولا شك أن السخرية هي ملح الرواية، والتي لا تكتمل معالمها بدون التطرق لسخرية من المعالم المعكوسة. كما يقول المتنبي في كافور الأخشيدي: “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم..”
وأما الدراما في الرواية، فهي التي تخلق التوتر في ذات القارىء، والتي تشده لمتابعة الحدث قائلاً : “آه وبعدين؟ ماذا سيحصل..؟ وكيف سيكون عليه الوضع؟ الدراما هي “الموجة تجري وراء الموجة…عايزة تطولها” على رأي الشاعر أحمد رامي، بغناء أم كلثوم.
الدراما هي المضخة المحركة لأحداث الرواية. وهي التي تشد القارىء للتقدم نحو المجهول، الذي لا يعرفه. الدراما هي قلب الرواية النابض، ودافعها نحو التقدم نحو الخاتمة التي لا يتوقعها. حتى ولو كانت على رأي الشاعر سميح القاسم “تقدموا، تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم..”، فالمعتدون يتقدمون على الأرض بهاجس دراماتيكي.. يتقدمون بدراما مرعبة.. دراما مدهشة.. دراما تدفعهم (على الخيال العمياني) إذ لا يعرفون نهايتها، وأدهش أنواع الدراما الضاغطة، تلك التي تجعل كل أرض تحتهم جهنم، وكل أرض فوقهم جهنم.
ميدل ايست أونلاين