جمـال البنـا: رحيـل مفكـر إشكـالـي (محمد شعير)
محمد شعير
من الظلم اختصار مُنجَز الراحل جمال البنا في كونه صاحب الفتاوى الساخنة فقط، أو كونه الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، فالباحث في التراث الإسلامي حتى رحيله الأسبوع الماضي كان هدفه الأساسي «نحو فقه جديد» أي تثوير الفقه الإسلامي باعتباره منجزاً بشرياً لا نصاً مقدساً وتطويره بما يلائم مقتضيات العصر. وكانت أفكار البنا الصغير مثار جدل من المؤسسة الفقهية الرسمية لكونها صادرة من شخص لم يكن خارج المؤسسة، بل من داخلها، وكان قمة إدراك حقيقي أن « تثوير» الإسلام لا يمكن أن يتم من خارج هذه المؤسسة. المدهش أن الجو الذي نشأ فيه البنا (ولد العام 1920) تقريباً هو الجو نفسه الذي ولد فيه شقيقه الأكبر حسن البنا، وعاشا سوياً أكثر من ربع قرن، الأسرة نفسها والأفكار ذاتها ولكن الشقيقين اتجها اتجاهين مختلفين: أسس حسن اكبر جماعة إسلامية متشدّدة، بينما كانت دعوة البنا الصغير «إعادة قراءة التراث الإسلامي، برؤية جديدة»، بل وصف العلماء المعاصرين بأنهم ينتمون إلى عصور الظلام «لم يجددوا فكرهم وفقهم بعيداً عن آراء السابقين».
كان البنا الأب ليبرالياً «الفن بجوار الدين» في البيت، كان له ميلٌ خاصٌّ للموسيقى، الأشقاء «عبد الرحمن» و«عبد الباسط» يكتبان الشعر، وقد كتب أغنيات لكبار المطربين آنذاك أمثال عبدالمطلب، ولعل أشهرها «شفت حبيبي وفرحت معاه» ويعزفان على آلة الربابة والعود، أما «محمد» فيتغنى بأغاني «عبد الوهاب» وهو طالب في الأزهر. وكان الوالد يقرأ الروايات الغرامية والبوليسية. أتاحت هذه التربية أن يكون لكل فرد من الأسرة اهتماماته وأنشطته. في حياة شقيقه حسن أصدر جمال كتابه الأول (سنة 1945) بعنوان «ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد» سنة، وفي العام التالي أصدر كتابه الثاني «ديموقراطية جديدة»، ثم توالت مؤلفاته في الصدور حتى تجاوزت مؤلفاته ومترجماته الـ150 كتاباً. وكلها تهدف إلى التجديد وتنادي بالحرية، وحتمية الفصل بين الدين والدولة، وهو الفكر الذي يناقض ما دعا إليه شقيقه الأكبر «حسن البنا» المؤسس لجماعة «الإخوان المسلمين»!
هو لا يظنّ أن أفكار شقيقه تختلف عن أفكاره الخاصة بل كثيراً ما كان يردّد: «لو كان شقيقي على قيد الحياة لربما لم تختلف آراؤه كثيراً عن آرائي». ويوضح: «حسن البنا» لم يكن رافضاً لما كنت أعرضه عليه من آراء أختلف فيها عن مقررات الإخوان بالنسبة للمرأة أو الفنون والآداب والحريات، لقد كان يسمع ويبتسم وهو ما يشير إلى أن وجهات النظر هذه لم تكن غائبة عنه، ولكن وضعه كان يتطلب نوعاً من التدرج خاصة أنه كان يؤمن بأن الزمن جزء من العلاج».
كانت فتاوى البنا التجديدية التي آثارت جدلاً مثل: تدخين السجائر حلال في نهار رمضان ولا تفطر، القبلة بين رجل وامرأة للمرة الأولى ليس بحرام ولا ذنب فيه، حجاب المرأة ليس فريضة وغيرها من فتاوى… كان كثير من الفقهاء يتصلون به عقب حملات الهجوم عليه سراً ويحيّوه عليها، ولم يكن يغضبه الهجوم أو يستفزه لأنه كان يعتبر نفسه «رأس حربة» يحمل دعوة علم…: «وللعلم فتواي ليس من ورائها هدف، لأنني لست بشاب فأبيح لنفسي القبلات، ولست أطلب مالاً أو شهرة، الأمر ببساطة اجتهاد في الفتوى يرتقي إلى الحقيقة»، كما قال في حوار معه.
ولكن كان أشد فتاويه إثارة للجدل لدى السلفيين والإخوان عندما رأى أنه لا توجد «دولة إسلامية»… كتب في كتابه «الإسلام دين وأمة وليس دين ودولة»… مؤكداً أن الفارق بين الأمة والدولة هو أن «الأمة» هي الشعب والمجتمع، في حين أن الدولة هي الحكومة والسلطة… وأولاً «مافيش دولة إسلامية» لأنه أصلاً متى تحققت الدولة الإسلامية؟! الإجابة في السنوات العشر التي حكم فيها الرسول المدينة، وهذه لم تكن دولة كاملة وإن كان بها بعض مقوّمات الدولة لكن لم يكن بها جيش دائم ولا شرطة ولا سجون… ويحكمها الرسول ويصحّح له الوحي… والقياس على هذه الدولة صعب.
أما في عهد «أبو بكر» و«عمر»… هذه دولة ظل الرسول… واستمروا 12 سنـــة فقط، وعندما طُعِن «عمـــر بن الخطاب»، طُعِنـــت الخلافة… لأن «عثمان» عندما جاء لم يسر بسيرة الشيخين وقُتل وهـــو يقرأ القرآن، وعندما أتت زوجته للذود عنه قطعوا أصابعها بالسيف وهي صـــورة دراماتيكية شنيـــعة لا يمـــكن أن تتصوّر، وعندما أتى «علي بن أبـــي طالب» أصبح نصف المسلمين يحارب النصف الآخر… هل هنـــاك دولة إســـلامية يحدث فيـــها ذلك؟ أما في 40 هـــجرية حوّل «معاوية بن أبي سفيان» الخـــلافة إلى مُلك ضخم… وهكـــذا فـــإن ما قضى عليه «مـــصطفى كمال أتاتورك» لم يكن خـــلافة، ولكنه مُلك… الخـــلافة هي ما حدث في عهد «أبو بكر» و«عمر» وفيما بعدهما فهو مُلك فقط…
ويرى البنا أن من الناحية النظرية السلطة تُفسد الأيديولوجية… الدولة شخصية اعتبارية، لكنها في النهاية تتبلور في الحكومة… والحـــكومة تتبلور بدورها في السلطة، يعني لو لم يكن في الحكومة جيش أو شـــرطة فلا تعتبر دولة… والسلطة معناها القوة والأيديولوجية معـــناها قيم. وما أبعد المسافة بين القوة والقيم، وما بين السلطان والقـــرآن. فإذا اجتمعا مع بعضهما، ضروري أن تفـــسد السلطة الحقيقية… ضروري أن تستغل السلطة الدين. وهـــذه هي الفكرة الرئيســـية التي فتحت نيران السلفيين والأخوان علـــيه. وأظن أن رحيله أتاح للإخوان أن يتنفسوا بعمق بعد أن مات أكثر أعدائهم، وأكثرهم خبرة بهم وبأفكارهم.
صحيفة السفير اللبنانية