جورج طرابيشي .. يرحل عن مئتي كتاب
يرحل جورج طرابيشي.. يترك كلّ شيء وراءه ويغادر. لا عن عمر مديد (77 عاماً، من مواليد 1939)، بل يرحل عن أكثر من مئتي كتاب، في التأليف والترجمة والبحث و.. التمحيص. يرحل أيضاً عن حلب التي ولد فيها، والتي أحبّ. حلب التي تشهد اليوم محاولة في نزع هذه «العقلانية» التي ضمخت بعطرها الكثير من المفكرين والكتّاب والشعراء. يرحل أيضاً عن بيروت التي سكنها فترة وغادرها بسبب الحرب الأهلية. وهناك، في «المنفى» الفرنسي الذي استقبله، يترجل واحد من أكثر المثقفين العرب إشكالية ونقاشاً وربما أيضاً، أحد أكثر «العقلانيين» الذين حاولوا في العقود الأخيرة أن يعيدوا «المجد» إلى.. «العقل» البحت.
لم يكن غريباً عن جورج طرابيشي أن يوضع في إطار هذه العقلانية، وبخاصة أن اسمه غالباً ما اقترن ـ وبالرغم من فارق السن ـ بشخصيتين عرفتا كيف تدفعان إلى إعادة النظر والتفكير بالكثير من المسلّمات، قصدت ياسين الحافظ والياس مرقص. صحيح أن هذا «الثلاثي» ـ بالنسبة إلى البعض، قد غادر التاريخ والسياسة (وربما الجغرافيا) ـ إلا أنهم لا يستطيعون أن ينكروا الأثر الذي تركوه في أجيال تربت على كتاباتهم.
من هنا، لا يمكن لأي واحد من الذين تعاطوا الكتابة والقراءة من «القرن الماضي» إلى الآن، أن لا يجد جزءاً من جورج طرابيشي، كامناً في قرارة نفسه. يكفي أن نذكر مثلاً أنه من نقل إلينا أعمال فرويد إلى العربية. نقل أيضاً أعمالاً لهيغل وإميل بريهييه وروجيه غارودي وسارتر وسيمون دو بوفوار والكثير غيرهم. بهذا المعنى قدم لنا مكتبة كاملة باللغة العربية، بالرغم من كل الملاحظات التي جاءت لاحقاً حول هذه الترجمات. كانت فترة مسكونة بالفكر القومي والثوري، بالفكر اليساري والماركسي، بالوجودية بكل فروعها.. وكأن طرابيشي كان يتوزع على كلّ هذه الأفكار، بالأحرى أراد أن يجمع كل هذه التنوعات في شخص واحد. ومع ذلك، يبدو مشروعه الأخير، هو المشروع الأكثر جدية واكتمالاً في مسيرته، حين حاول أن يقدم نقده «لنقد الفكر العربي»، بمعنى أنه أعاد قراءة كل ما كتبه محمد عابد الجابري ـ الذي كان (على الموضة) ـ بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، ليُظهر كم أخطأ المفكر المغربي في تأويل الفكر العربي ـ الإسلامي. بالأحرى لم يتورع طرابيشي في وصفه أحياناً بالمزور، إذ برأيه، كان يقتطع جملاً وعبارات من سياقها التاريخي، ليضعها في سياقات أخرى تخدم ما يريد الوصول إليه من أفكار.
إذاً، هذا الوسواس في الدقة والتمحيص، قاد إلى أمثلة مدهشة.. هل يصح هنا القول إن جورج طرابيشي لعب دور التحري الثقافي كي يقودنا إلى الحقيقة الفكرية؟ كان لاعب أفكار ماهراً. بل أكثر من ذلك: حرق مراحل بأسرها ليبين لنا كم أننا نقف عند حدود التلقين من دون أن نبحث فعلاً في العمق الذي قد يكون مخالفاً.
ربما لم يعد الزمن صالحاً للحديث عن الاختلافات.. ليس لأن العقل ـ الذي أراده جورج طرابيشي قد استقال ـ بل لأن الكثير من المسببات ترغب في تغييبه وإقصائه. ومع ذلك، لا بدّ أن نحترم ولو هذا الجزء من ماضينا.. لأنه قد يسمح لنا في مستقبلنا الذي لا زلنا نبحث عنه.
صحيفة السفير اللبنانية