جيم هاريسون في سيرة ذاتية مبتكَرة
قبل رحيله عن هذه الدنيا في 26 آذار(مارس) الماضي، ترك الكاتب الأميركي الكبير جيم هاريسون لقرّائه هدية هي عبارة عن نصٍّ قصير نسبياً صدر قبل أيام من وفاته عن دار «غروف» النيويوركية تحت عنوان «المشعبذ العجوز» (The Ancient Minstrel)، وصدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «فلاماريون» الباريسية.
قارئ هذا النص يحزر بسرعة أن «المشعبذ»، أو «الشاعر»، أو «البهلوان» (الحقل الدلالي لكلمة Minstrel الإنكليزية واسع جداً) هو هاريسون نفسه، وأن نصّه هو بالتالي نوع من السيرة الذاتية التي كتبها بصيغة المجهول «للإفلات من خديعة الواقع»، على حد تعبيره، وتأمُّلِ حياته كمراقبٍ خارجي لها. وهو ما يمنحنا الانطباع بقراءة رواية، على رغم أن كل الأحداث المروية حقيقية ولا تمتّ إلى الخيال بِصِلة.
سيرة فريدة من نوعها إذاً يتسكّع هاريسون فيها داخل ذاكرته، الانتقائية بطبيعة الحال، لسرد ذكرياتٍ، شذرات حياةٍ، بذلك الأسلوب الذي يهدف إلى الإمساك بشعرية اللحظة ولا أحد يعرف أسراره أكثر من ذلك الذي عرف حتى النهاية كيف يتمتّع بالحياة ويمتصّ رحيقها من دون تحفّظ أو ندم.
وفي هذا السياق، نراه يعود إلى الحادث الذي فقد فيه عينه اليسرى في سن السابعة، وإلى فقدانه أخته وأبيه باكراً في حادث سير وأثر ذلك في خياراته الحياتية، وإلى فصول من حياته الزوجية وخياناته المتكررة لزوجته، وإلى إدمانه الثابت على الكحول وولعه بالطبخ والجنس والنساء والخمر وفرنسا.
ولا يهمل هاريسون مسيرته المهنية، بدءاً بقراره في أن يصبح شاعراً خلال سن المراهقة، مروراً بالسنوات التي مارس فيها التعليم في الجامعات الأميركية، وانتهاءً بالصعوبات التي لاقاها للعيش من كتاباته، باستثناء كتابة السيناريوات لاستوديوات هوليوود التي درّت عليه أموالاً طائلة صرفها من دون وعي أو تفكير في شيخوخته.
ولأن الطبيعة احتلت مكانةً خاصة في حياته، يعود إليها مراراً في نصّه لاستحضار انخطافاته داخلها واستمتاعه بهواية الصيد في أنهارها وبتأمّل الطيور والحيوانات في أرجائها. ولعل الفصل الأكثر إثارة في نصّه هو ذلك الذي يسرد فيه قصة شرائه خنزيرة حبلى واعتنائه المؤثّر على مدى شهور بها وبالأطفال التسعة الذين ستنجبهم. وتأسرنا أيضاً الصفحات التي يرصدها لمغامراته الجنسية مع الطالبات التي لم تكن دائماً مضمونة المتعة: «في أحد الأيام، توجّه بفتاةٍ ساحرة إلى غيضة، من دون أن يشكّ في أن زوجته كانت تتبعه خفيةً بسيارتها، وفي حقيبتها مسدس…». هذه الزوجة التي أبتعدت عنه بسبب خيانته لها وإدمانه المتعدد الوجوه، لكن من دون أن تقطع صلتها به، والتي نقرأ في نصّه صفحات جميلة حول تصالحه معها في نهاية حياته.
باختصار، يقودنا هاريسون عبر غبار أهوائه، مستحضراً ذكرياته بفوضى عارمة ونبرة طريفة لا تخلو من الجدية حين يتعلّق الأمر بالأدب عموماً، بآثاره الأدبية، وخصوصاً بالشعر الذي بقي القضية الأهم في حياته وخصّص له طاقة كبيرة لم تؤت دائماً بالثمار المرجوّة، وفقاً إليه، على رغم تركه لنا خمسة عشر ديواناً: «للشعر أحياناً هذا المفعول. إما نرتقي به إلى السماء، وإما يجعلنا نتخبّط في حالة اكتئاب. نكتب أحياناً بيتاً شعرياً رائعاً، لكن لأن فكرتنا ليست قوية كفاية لاستتباعه بأبيات أخرى، تملّ الكلمات وتتصارع في منتصف عملية الخلق. دفاترنا مليئة بهذه الشذرات، شظايا نوايانا. وبالنتيجة، الحياة بخيلة، ولهذا نكافح غالباً من أجل إكمال قصيدة».
ولأن الكاتب تعمّد أن يكون نصّه على شكل ثلاث سرديات مكثّفة، لا يتوقف مطوّلاً عند الأحداث التي يقاربها. وهل من لزوم لذلك، بعدما استرسل في الحديث عن حياته سواء في سيرته الذاتية التي صدرت عام 2002 بعنوان «على الهامش»، أو في الحوارات الكثيرة التي أعطاها للصحف والمجلات؟ نأسف فقط لعدم إشباعه عطشنا حين يتحدث عن فرنسا التي زارها عشرات المرات وعشقها أكثر من وطنه، أو حين يتأمّل في المحيط الأدبي في أميركا الذي يعرفه خير معرفة، أو في مهنة الكتابة التي يقول حولها: «مَن أعلن أن الكتّاب هم في غاية الأهمية بالنسبة إلى قدر البشرية؟ يحقّ لشكسبير وبعض العباقرة النادرين أن يدّعوا هذا الشرف، لكن آلاف الكتّاب غيرهم يقعون في فراغ النسيان».
ومع ذلك، نستمتع إلى أبعد حد بهذا النص لعثورنا فيه على أسلوب كتابة هاريسون السيّال، وعلى خفّة نبرته وحسّه الدعابي، وبالتالي على صوته الفريد وحكمته الفظّة التي تعكس إنساناً حرّاً أعفى نفسه من إملاءات العالم الحديث وصرّح في أحد آخر الحوارات التي أجريت معه: «أرغب في أن يُكتب على شاهدة قبري هذا القول الهندي القديم: نحبّ الأرض، لكننا لم نتمكّن من البقاء عليها».
وعلى رغم أن شبح الموت يظلّل العديد من صفحات هذا النص، ولكن لا حزن أو كآبة على الإطلاق فيه، بل تواضع وبصيرة مدهشة وسخرية ثابتة من الذات، كما حين يتناول هاريسون مسألة انطفاء رغبته الجنسية وموت رجولته، وبالتالي خوفه من أن ينتهي جالساً على ذلك المقعد، مقابل البلدية، الذي يحتله كل يوم عجائز يعانون من المشكلة ذاتها.
نصٌّ مكتوب بلا أي مرّشّح، نتلقّاه على شكل رشقٍ ناري أخير، صريح وماكِر، ويشكّل بالتالي خير بورتريه لصاحبه، هذا العملاق الذي لم يقهره أي شيء ولم يتوانَ عن إشعال شمعة حياته من طرفيها في آنٍ واحد. ولهذا لا نبالغ إن اعتبرناه كوصية شاعر أحسّ باقتراب المنيّة. فمثل كل وصية من هذا النوع، ثمّة جهد واضح فيه من أجل بلوغ خلاصة أو حصيلة لكلّ ما سبقه من كتب. ومع أن بعض النقّاد لم يروا فيه رائعةً أدبية، وهم غير مخطئين في ذلك، لكنه يشكّل بالتأكيد لحظةً صافية من السعادة والمتعة يودّعنا خلالها «بيغ جيم» كما عرفناه دائماً، أي سعيداً، حليماً، متساهلاً، مفرَط الحيوية، حرّاً وتحريضياً أكثر من أي وقتٍ سابق، ودائماً على هامش الأعراف والتقاليد.
صحيفة الحياة اللندنية