حاتم علي: المسلسل ليس وطناً بديلاً
أسئلة كثيرة يعيد طرحها مسلسل «العرَّاب – الضرب تحت الحزام». ربما كان من الأجدى طرحها على المخرج السوري حاتم علي عند عرض العمل في موسم رمضان الماضي، لكن تطور الأحداث فيه من خلال رسم متقن لامبراطورية الفساد المنظم والصراع على السلطة والمال التي ورثها الشقيقان «جاد» و «قيصر» عن أبيهما «أبوعليا» دفع إلى التمهل والتروي بطرحها، فهو يتناول شرائح فاعلةً في المجتمع السوري، تتقاسم أدوارها في زرع وحصد الخراب وثماره بعيدة المدى كما ظهرت عليها فيه. في اتصال هاتفي مع المخرج علي بمناسبة إعادة عرض المسلسل مجدداً على محطة «أم بي سي»، قال رداً على سؤال حول ما إذا كان التخلص من «يامن»
(رافي وهبة) هو بمثابة تخليص للحكاية من ضغط الجزء الأول، باعتبار أنه هو من كتبه، وكان لا بد من استبعاده حتى يتم الانتقال بفهم مختلف للجزء الثاني، والاستعانة بكاتبين مختلفين: «أعتقد أن الشخصيات في الجزء الأول استنفدت أغراضها، ومع نهاية «أبو عليا» كانت قد وصلت إلى ذراها التي رسمها المؤلف، فتم الاستغناء عن عدد منها، وكان لا بد من تطوير بعضها الآخر والاستفادة من سمات كانت متوارية، مثل جانب السخرية في شخصية «قيصر» أو الانتهازية عند «جاد»، أو إحداث انقلاب في بعضها، كما حدث لشخصية «عليا»، إضافةً إلى استقدام شخصيات جديدة لخلق صراعات مختلفة. كل ذلك كان مطلباً للدراما نفسها، وليس فقط بسبب تغيير الكاتب».
وحول سؤال متعلق بطبيعة الرواية الأصلية وما تحمله من إشارات، وما إذا كان الاستغناء عنها مجدياً في اقتفاء آثار المافيا السورية من خلال تشكل المفاهيم، وليس الأفعال، أجاب مخرج «التغريبة الفلسطينية»: «هناك تقاطع بين الرواية والواقع السوري، وعلى هذا تبنى مشروعية الاقتباس. فالعائلة كـ»مؤسسة» اجتماعية ما زالت تتحكم في انتماءات الفرد. وربما كان هذا الانتماء متقدماً على الانتماء «الوطني» وهو جزء أساس من «هوية» السوري، والعائلة حلقة من متلازمات متتالية، أكبر فأكبر، فهي جزء من العشيرة، ومن طائفة، وهكذا دواليك». وأضاف: «الاقتصاد العائلي مصطلح معروف في سورية ومما لا شك فيه أنه في ظل عدم سيادة القانون، يحتاج إلى السلطة كرافعة، وكمصدر حماية، والحماية عادةً تشترط الولاء، وإذا ذهبنا أبعد قد تصل إلى حد الشراكة». وعن عدم وجود صعوبة عند المشاهد في التقاط خيوط الحبكة والإسقاطات، وهل المخرج والكاتبان قد تقصدوا قيادته نحو صور معدة سلفاً في خياله، قال علي: «إن كان المشاهد قد وجد تشابهاً بين شخصيات المسلسل وشخصيات يعرفها في واقعه، فهذه نتيجة طبيعية، لأن المسلسل في نهاية الأمر هو مسلسل سوري ويستمد شخصياته وحبكاته من الواقع. لكنه بالتأكيد لا يتعرض لشخصيات بعينها، إنما إلى منظومة متكاملة تكالبت على الاقتصاد وعلى الحيّز السياسي، وربما الثقافي والفني أيضاً». وعن شخصيتي «جاد» (باسل خياط) و «قيصر» (باسم ياخور)، وهل شخصية الأول الرمادية قد رسمت لتشكل تبايناً حاداً مع شخصية الثاني المضاءة، قال مخرج «ربيع قرطبة»: «»قيصر» من مرحلة سابقة، أما «جاد» فهو بطل المرحلة الجديدة. «قيصر» بمثابة الجسر وحلقة الوصل، وقد جهد السيناريو في خلق تباين بينهما، ليس فقط لخدمة الفكرة، وإنما أيضاً لأسباب فنية. «قيصر» خبر اللعبة وتمرَّس فيها، وهو يمارسها بدم بارد، أما «جاد» فهو يكتشفها الآن، ويجرب وسائل جديدة فرضها الواقع المتغير». وهل يرى «جاد» في زواجه الدمشقي مصلحةً لإعادة تدوير أعماله الناهضة من خلاله، وهل شكل هذا تشريحاً بنيوياً لبورجوازية هجينة صاعدة، تستوفي شروط عقد حلف غير مقدس بين السلطة وبينها، قال علي: «قد لا تبدو كافيةً، في ما لو كانت هذه المصاهرة ذات بعد اجتماعي وحسب، لكنها بالتأكيد أبعد من ذلك. إنها شراكة. التقاء مصالح. وبالتالي ارتباط في المصير».
أما لماذا الإسقاطات الآن، فقال علي: «قد أتحفظ على استخدام مصطلح إسقاط، ففي الماضي استخدم كثيراً، بخاصة مع ظهور ما كان يسمى بالفانتازيا التاريخية، وهو مصطلح مضلل، إذ استخدم لتبرير الهروب من استحقاقات الواقع، كما استخدم بسذاجة لتبرير مشروعية الأعمال التاريخية، على رغم إيماني بأنها تستمد مشروعيتها من قدرتها على طرح الأسئلة المعاصرة، وليس من تشابه بعض شخصياتها مع أحداث ووقائع تجري الآن. في ما يتعلق بـ «العرَّاب»، فهو مسلسل معاصر ينهل شخصياته وحكاياته من الواقع، وهذا سبب تحفظي على السؤال والمصطلح، أما إذا كنت تقصد عدم تطرق المسلسل لأشخاص بعينهم، وبأسمائهم الحقيقية فهذا سببه أننا نصنع عملاً روائياً وليس وثائقياً تسجيليا». وعن سبب اختياره للعب دور «نورس»، وهل كان يريد أن يتحول إلى ضمير غائب في العمل، وهو الكاتب المعروف الذي يُسجن بسبب إيواء ابنة «أبو عليا» المتخلفة عقلياً عنده، إذ تبدو الإشارة واضحةً هنا لمعظم السوريين، قال: «لقد قمت بذلك لأن الدور مغرٍ ببساطة، ليس فقط ببعده الرمزي، وإنما أيضاً لتركيبته الفنية. ثم إنني في النهاية ممثل، أي أنني لا أقتحم هذه المهنة بغير وجه حق». وهل المال الهجين الذي كان يغرق المسلسل فيه هو السبب في ما آلت إليه بعض الأوضاع في سورية قال علي: «أعتقد أنه أحد الأسباب الرئيسة بخاصة مع بروز التوجه نحو اقتصاد السوق في ظل فساد المنظومة القضائية، مما أدى إلى سيطرة أصحاب هذا المال ليس فقط على الاقتصاد والثقافة والإعلام، بل وامتدت سطوتهم إلى الفضاء السياسي كمحصلة طبيعية في نهاية الأمر».
وقال معلقاً على افتقاده لحاضنة المكان في علاقته مع أحداث المسلسل، وهو من المخرجين الذين برعوا في رسم حكاياتهم من خلال العلاقة مع الأمكنة: «أوافقك الرأي، ففي معظم الأعمال التي صورتها أخيراً تمّ تغييب المكان، وبهذا تكون هذه الأعمال قد فقدت أهم عناصرها. لا يمكن خلق وطن بديل. لا يمكن لهذا أن يحدث حتى في مسلسل».
صحيفة الحياة اللندنية