«حرب المعلومات»: الأسد هدف بعد بوتين
مَرَّ شهرٌ على نشر وكالة «ريا فان» الروسية استطلاعاً للرأي ومقالات تهاجم الرئيس السوري، بشار الأسد، بالتوازي مع نشر دبلوماسي روسي سابق مقرّب من الغرب مقالة نقدية حادة ضدّ الأسد. الوكالة أعلنت لاحقاً أن موقعها تعرّض للقرصنة وأزالت المنشورات عن صفحاتها، ثم نشرت مواد معاكسة، لكن ما نُشِر كان كافياً لتنطلق «حرب معلومات» جديدة ضد الأسد والدولة السورية، في استكمال لسلسلة لم تنقطع من الحروب الغربية الهجينة التي استهدفت دمشق مع بدء الصراع في 2011. لئن كانت الأهداف متعدّدة ومعروفة، وتتقاطع فيها المصالح بين الأعداء وحفنة من الذين يجلسون على ضفّة الأصدقاء، قبل عام من الانتخابات الرئاسية السورية، فإنها اتخذت من العلاقة الروسية ــــ السورية بالتصويب عليها انطلاقاً ممّا نشرته «فان» عنواناً للمعركة، بقصد زعزعتها وخلخلة التماسك الذي عبّرت عنه الدولة على مستوى الإدارة السياسية والعسكرية، وانتظام العلاقة مع الحلفاء وتجذّرها، ولا سيّما مع روسيا وإيران.
هذا التماسك متعدّد الوجوه، على رغم «حصار التجويع والتركيع» الذي فاقمته تأثيرات جائحة كورونا أخيراً (سيزيدها جوراً وقسوةً دخول قانون العقوبات الأميركية «قيصر» حيز التنفيذ خلال أسابيع)، هو الذي يمدّ الموقف السوري بالصلابة في الدفاع عن السيادة والوحدة وحماية الموارد السيادية في أي حل سياسي مقبل. وعلى ما يُظهِره السلوك السوري العام، في الحرب العسكرية المباشرة عبر إصرار الجيش على استعادة كل شبرٍ من الأرض، وبالمفاوضات عبر رفض الدولة النقاش حول أي هياكل سياسيّة تقسيمية، فإن السوريين لا يعطون أي إشارة عن نيتهم تسليم ما قدّموا التضحيات الجسام للحفاظ عليه، في صمود استراتيجي طويل، تحت ضغط الدعاية، الآن أو في المستقبل.
حاول التقرير السابق المنشور في «الأخبار»، بعنوان «حرب الشائعات عن روسيا وسوريا: الأسد ليس يانوكوفيتش» (5 أيار 2020)، رصد سياق الحملة الإعلامية منذ انطلاقتها في روسيا والجهات التي تقف خلفها، والجهات الدولية التي بَنَتْ عليها كالمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري. وكذلك أضاء على الموقف الروسي الرسمي تجاه سوريا والأسد، الذي عبّر عنه الكرملين باختصار شديد باعتبار ما نُشر «أكاذيب من صحافة صفراء»، وردّت عليه السفارة الروسية لدى بيروت ببيانٍ قاسي اللهجة، نعتت فيه ما يُروّج عن العلاقات الروسية ــــ السورية بـ«حلقة من مسلسل تضليلي مدسوس».
لكنّ حملة الأكاذيب وجدت من يُدعِّمها خلال الأسبوعين الأخيرين، في اللقاء الذي بثّته «روسيا اليوم» العربية، مساء الثلاثاء في 5 أيار/ مايو الماضي عبر برنامج «قصارى القول». إذ استضاف الصحافي العراقي سلام مسافر رجل الأعمال السوري فراس طلاس، في مقابلة هي الثالثة في أقل من عامين. أزيلت المقابلة لاحقاً عن موقع القناة لـ«مخالفتها المعايير الرئيسية للمحطة ولورود معلومات لا تستند إلى حقائق مؤكدة». لكن خطوة مسافر، الذي احتفظ بمنشور تحت عنوان «خريف البطريرك» على صفحته عبر «فايسبوك»، في إشارة إلى الأسد، «استفزّت» النائب في البرلمان السوري خالد العبّود، فدفعته «حماسته» للدخول في «لعبة تنس»، مهدداً روسيا ورئيسها، على «فايسبوك» أيضاً!
كيف تشتعل «حرب المعلومات»؟
«حرب المعلومات» هو مصطلح عسكري روسي يرادف ما يسمّيه الجيش الأميركي «العمليات النفسية». وكان حتى الأمس القريب عالَماً مجهولاً من غالبية القوى المناهضة للولايات المتّحدة الأميركية. في 2016، وتحديداً بعد الانتخابات الداخلية في حزب «روسيا الموحدة» وانتخابات مجلس الدوما، توصّل خبراء روس إلى تفكيك آلية عمل حرب المعلومات التي عادةً ما تكون موجّهة ضد الزعماء والرؤساء والأنظمة والكيانات التي تعارض السياسات الأميركية. غير أن فهم آلية عمل هذا النوع من الحرب لا يعني القدرة على هزيمة الخصوم بأسلحة موازية، مع تفوّق أميركا الإعلامي وخبرتها الدعائية وسيطرتها على كبريات وكالات الأنباء العالمية، على رغم الدور الذي تقوم به «روسيا اليوم» في أميركا وأوروبا، لشرح قضيّتي سوريا وأوكرانيا من الوجهة الروسية.
واحدٌ من أبرز هؤلاء الخبراء هو أندريه مانويلو، العميد المتقاعد من إحدى وكالات الاستخبارات الروسية، وخبير الحرب الإلكترونية و«حرب المعلومات»، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو الحكومية. برز دور مانويلو في أكثر من نشاط عبر عمله مع خبراء آخرين على تفكيك حملات «الشيطنة» الكثيرة التي خيضت ضد الرئيس فلاديمير بوتين، في السنوات الخمس الأخيرة. فقُبيل انتخابات الدوما 2016 انطلقت من بريطانيا حملة إعلامية عنيفة ضد بوتين، تبنّتها الوكالات العالمية سريعاً، في ما يُعرف بقضيّة العميل الروسي ألكسندر ليتفينينكو. «استحضر البريطانيون هيكله العظمي»، كما يقول النائب الروسي أندريه لوغوفوي، في محاولة لاتهام بوتين شخصياً بمقتله مسموماً بـ«البولونيوم ــــ 210» المشعّ عام 2006 في لندن. وبعد وقت قصير، نشرت قناة «بي. بي. سي. 2» البريطانية، فيلماً وثائقياً عن «فساد بوتي بوتين والأسد هدفان للدعاية الغربية ن» قبل تسريب ما يعرف بـ«وثائق بناما».
طاولت التسريبات البنامية العديد من الشخصيات والكيانات في العالم، لكن رجال الاستخبارات الروسية وخبراء حروب المعلومات، مثل مانويلو، توصّلوا إلى أن الهدف الرئيسي من هذه التسريبات هو التلاعب بالقاعدة الشعبية والحزبية والنخبة المحيطة بالرئيس الروسي قبل استحقاقات الانتخابات لإحداث الانقسامات والتردّد بينها، عبر تشويه صورته التي اجتهد في بنائها منذ 2000. لم يكد يمرّ عامان حتى تجدّدت الحملة في ما يعرف بقضية العميل السوفياتي/ البريطاني سيرغي سكريبال الذي وجد مسموماً أيضاً في لندن في تموز/ يوليو 2018 بسمّ عسكري روسي هو غاز الأعصاب «نوفيشوك»، كما ادّعى جهاز الاستخبارات البريطانية «أم. آي. 6». جاءت الحملة في عزّ التلفيقات الغربية ضد سوريا والقوات الروسية العاملة فيها باستخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية، الأمر الذي عادت وسائل إعلامية غربية وكشفت تفاصيل الأكاذيب فيه قبل أشهر. مع ذلك، تستمر «منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية» باستخدامه سيفاً مصلتاً ضدّ سوريا وروسيا مع كل استحقاق كبير.
بوتين والأسد هدفان للدعاية
في رسالة مكتوبة لـ«الأخبار»، يُشرّح مانويلو بالتفصيل مراحل عمل ومنهج «حرب المعلومات» الذي «تعتمده أميركا وبريطانيا خاصة لمحاربة الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وحزب الله»، مستخدماً أمثلة عن الهجمات المتكرّرة على بوتين. الهجوم الجديد ضد الرئيس السوري يبدو نسخة طبق الأصل للهجمات ضد نظيره الروسي، مع فارق وحيد هو أن ما استندت إليه وسائل الدعاية الأميركية وتوابعها الغربية والعربية والتركية والإسرائيلية والمسؤولون الأميركيون لم ينطلق من لندن، إنمّا من موسكو. يضيف مانويلو: «هدف حرب المعلومات هو كسر مقاومة العدو وإخضاع عقله لإرادة طرفٍ ثان. وهي عادة تستهدف شخصاً أول في البلد، من أشخاص معروفين ومعلومات رنّانة، ثم من وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية التي تفسّر الأخبار بطريقتها الخاصة، وتبدأ من الأشخاص الرئيسيين العاملين حول الهدف وأعمالهم».
تعتمد تلك الحرب على «ردود الفعل على أحداث معينة، عبر نشر معلومات كاذبة وشائعات ولقلقة على الشبكات الاجتماعية، بقصد الاستفزاز وتشجيع السياسيين على ردود الفعل الانفعالية». وفي كثير من الأحيان «يشارك في عملية تأجيج الهجمات الإعلامية صحافيون مستقلون لإعطائها صدقية وتزخيمها»، مع اقتناع العميد السابق بأن «هؤلاء الصحافيين ينفذون الأمر السياسي لأسباب عدة». وفق دارسة الخبير وزملائه، تستخدم آلية العمل طريقتين: الأولى «بطاقات التعريف»، عبر وسم اسم الهدف بصفة معيّنة بعد خلق فضيحة، والثانية «بالون الاختبار… تهدف إلى أقصى استفزاز للخصم لدفعه نحو الردّ، وكلا الأسلوبين، استخدما في معارك إسقاط الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوزوفيتش والليبي معمر القذافي والصربي رادوفان كاراديتش». ويؤكّد مانويلو أن «محاولات تصرفات النخبة لتحقيق هجوم مضادّ على المراكز الغربية المتخصصة في حرب المعلومات هي إجمالاً غير منظمة، وبالتالي تزيد إمكانية الوقوع في الفخ».
تَتَبُّع حالة سوريا على منهاج العمل السابق يفضي إلى: أوّلاً، استغلّ خصوم سوريا ما نشر في «فان» وما كتبه الدبلوماسي السابق إلكسندر إكسينيوك المقرّب من الغرب، الذي كشف بوضوح الخلفية الحقيقية الغربية للحملة، وهو ضرورة أن يقف الأسد عند حدود الأراضي التي تسيطر عليها الدولة اليوم، والاكتفاء بذلك لتحقيق حلّ سياسي. ثمّ أجّجت الحرب تصريحات جيفري وإعادة تدوير الأنباء وصناعتها في الوسائل الأخرى. وحين بدأت الحملة تفقد قوّتها، مع النفي الرسمي الروسي المتكرّر والصمت الرسمي السوري، جاءت حلقة طلاس مع مسافر، على طبق من فضّة، فزخّمت الحملة قوتها في وسائل الإعلام الغربية والعربية.
بين حين وآخر، دأب مسافر على استضافة طلاس دون أي مبرّر مهني. فرجل الأعمال السوري الذي أوقف في الإمارات المتّحدة قبل أشهر على خلفيّة دعمه تنظيم «داعش» في ريف حلب الشرقي، ليس عضواً في أي من هيكليات المعارضة السورية، ولا مسؤولاً حالياً أو سابقاً في دمشق. إنّما هو مجرّد رجل أعمال يرأس تياراً وهمياً يسمّى «الوعد»، ويتفق مع مسافر على العداء للأسد والتسويق لتنظيم «الإخوان المسلمون»، وعلى توصيف الساحة السورية بمصطلحات طائفية، والحديث عن السوريين والعراقيين في مقابلاته بوصفهم سنّة وشيعة وأكراداً وعلويين ودروزاً وما إلى هنالك من تقسيمات. وإذا كان الهدف المهني من استضافة طلاس هو كشفه «معلومات» سريّة عن الفساد في سوريا، فإنه حتماً ليس الشخص المناسب، لكون ثروة عائلته واحداً من أبرز مظاهر الفساد، وعلاقات العائلة وفراس طلاس مع الغرب لا تجعله مصدراً «موثوقاً» للروس. وفي حين حاول كثيرون تفسير إطلالة طلاس عبر «روسيا اليوم» كرسالة روسية إلى الأسد، أجاب أكثر من مصدر روسي أمني ودبلوماسي سألتهم «الأخبار» عن معنى المقابلة بأنها «محاولة تسويق لطلاس في روسيا وليس العكس».
هذه ليست المرة الأولى التي يفتعل فيها مسافر ضجّة. ففي آخر زيارة عمل له لبيروت، استضاف النائب السابق وليد جنبلاط عشيّة إطلاقه مواقف معادية لموسكو في بيروت ومؤيّدة لحصر علاقة الجيش اللبناني بالأميركيين. في تلك المقابلة، أطلق جنبلاط شائعته الشهيرة حول لقاء جمع الأسد برئيس وزراء العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ما اضطر الخارجية الروسية والسفارة لدى بيروت إلى تكذيب الخبر، وخصوصاً أن الأخير ادّعى أن مصدره مسؤول روسي. حتى إن بوتين نفسه وجّه إلى مسافر في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ملاحظة بالغة الأهمية على الهواء مباشرة، ضمن مقابلة أجرتها «روسيا اليوم» معه بمشاركة مراسلين آخرين. لكنّ صفحة القناة على «فايسبوك» نشرت مقطع الفيديو تحت عنوان «بوتين يمازح مسافر». والواقع أن مسافر حاول الإيحاء بأن روسيا تتدخّل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فردّ بوتين عليه: «أنت تعمل في قناة روسيا اليوم، صحيح؟ وبفضل أشخاص مثلكم سيتمّ اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية»!
وفي زيارة بيروت الأخيرة، لم يخفِ مسافر، أمام زملاء لبنانيين، أنه يحصل على موازنة خاصّة من القناة، ويملك هامشاً مستقلاً عن عملها بفضل علاقة الصداقة التي تربطه بوالد مديرة القناة العربية الأردنية، مايا منّاع. وتعود تلك العلاقة إلى الأيام التي قضاها مسافر في عمّان أيام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. ولكي يكتمل المشهد، وقع النائب السوري خالد العبّود في فخّ استفزاز حلقة «روسيا اليوم»، مخالفاً المنهج السوري التقليدي بإهمال الشائعات، فجاء ردّه مكمّلاً عن غير قصد لتأكيد وجود خلاف روسي ــــ سوري، في سياق طبيعي لحرب المعلومات. فانشغل السوريون المؤيّدون للدولة بنفي كلام العبود، وانشغل الروس في طمس ما فعله مسافر، ما أحدث بلبلة في معسكر التحالف الروسي ــــ السوري ــــ الإيراني.
في المقبل من الأيام، ستتعاظم «حروب المعلومات» والضغوط الاقتصادية لانتزاع التنازلات قبل التسويات. يقول مانويلو إن «الطرف الذي يفوز في هذه الحرب هو القادر على توقّع خطوات وأفعال خصومه، ثم تحقيق الرد غير المتوقّع… الأهم هو الصبر والتزام السكون، على طريقة الخدعة التي فعلها بوتين بوسائل إعلام روجّت لاختفائه، قبيل أن يظهر في سوتشي ويكذّبها… بصمت».
صحيفة الأخبار اللبنانية