حصــاد الاســتبداد (عباس بيضون)

 

عباس بيضون


بدأنا نخاف على مصر. بل نخاف على تونس وليبيا وطبيعي أن نخاف على سوريا، لا يمكن اعتبار صعود الإسلامويين إلى السلطة مجرد تسكير حساب تاريخي، لم يعد بديهياً القول انهم كانوا وحدهم في الساحة وبعد أن انقلبت الأنظمة لم نجد غيرهم للسلطة. هذا قد يكون صحيحاً لكن وجود الاسلامويين وحدهم في الساحة يعني أن مراحل كثيرة ينبغي قطعها قبل أن نبادر إلى شيء. الاسلامويون وحدهم في الساحة يعني اننا ما زلنا قبل السياسة. يعني أيضاً ان مسافة كبيرة تفصلنا عن الديموقراطية. مسافة قد تكون دامية وحافلة بالمذابح والعنف الأعمى. ماذا يعني عشرات الشهداء كل يوم، في القاهرة وبورسعيد والمحلة، ماذا يعني السحل والاعتداءات الجنسية والقتل بلا هوادة. بعد أيام من الثورة المصرية سحبت الشرطة من الشوارع واليوم بعد أكثر من عام على الثورة تعود الشرطة إلى الشوارع لتتم ما نكصت عنه في أول أيام الثورة. ليست الشرطة وحدها التي تباشر العنف، ثمة جو إحراق المنازل والمراكز ونهب المتاجر والرشق بالطوب يتصاحب مع إطلاق الرصاص وسحل المتظاهرين والاعتداء الجنسي عليهم.
أين هذا من الديموقراطية، أينه من احترام الإنسان بما هو إنسان وبصرف النظر عن لونه ومذهبه وعرقه وأينه من تساوي الناس وأينه من الدفاع عن حقوق الأفراد والأقليات وأينه من الاعتراف بالآخر. أخشى أن ما يحدث الآن هو انفجار الاستبداد وتدميره بأدواته ذاتها. أخشى أن ما ينجم ويتجلى هو حصاد الاستبداد وحصيلته. أخشى أن مجتمعا تم لحمه وإدماجه بالعنف، مجتمعاً تم تأليفه باصطناع الرعب والتجسس والرقابة المخابراتية، تم لأم انشقاقاته وانقساماته بفظاظة وتعسف وافتعال، تمت إقامته وتشييده على أسس متهاوية، وقام وارتفع على قواعد خربة، وتألف بما يشبه اللصق والتركيب الاعتباطي، أخشى أن مجتمعاً تم إدماجه بالعنف يتفكك بعنف مماثل، وتظهر أثناء ذلك شقوقه وصدوعه وانقساماته. أخشى أن يتحول العنف الضمني الذي حكمه إلى عنف معلن ظاهر لا سبيل إلى وقفه ولا سبيل إلى إسكاته، ما دام العلن والصراخ والدوي من خواصه، وما دام يُظهر إلى الضوء صدوعاً تم إخفاؤها وإلصاقها والتعتيم عليها وإنكارها دهوراً، بل ربما تم تحريكها واللعب بها لمزيد من الرعب ومزيد من الخوف وأمرها في يد من يحركها ومن يعاود إغلاقها بعد قليل. يهول بها قبل ان يظهر قدرته على إخمادها، فيكون الرعب هنا مرتين، مرة عند التهويل ومرة عند الإخماد.
إذا عدنا إلى ما جرى في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فهمنا ان ما تزرعه الريح تحصده العاصفة، ما يزرعه الاستبداد يقتلعه الاستبداد وما بني بالعنف لا يزول إلا بالعنف. المافيات حكمت روسيا والنهب صار قانونها وصار البلد امداً طويلاً قي يد قلة من أباطرة المال وصار متاعاً للصوص من كل نوع واقتضى الأمر عقوداً من التفكك والحروب الداخلية والمؤامرات والمكائد حتى أمكن ان يستقر وان يصل إلى ديموقراطية ناقصة ومشبوهة. فهل لنا ان نتذكر مقاساة الروس قبل ان نفكر ان الديموقراطية دانية وانها أقرب ما يكون. هل لنا ان نتذكر مقاساة الروس لنتعلم الصبر ولنعرف ان بناء الاستبداد لا يطير بنفخة وان تاريخا كهذا لا يصنع بالأحلام. لا بد من وقت ليعود فيه الإنسان إنساناً. لا بد من وقت لتصبح المساواة فيه حقيقة. لا بد من وقت ليعود فيه المجتمع مقرا بانقساماته متعايشاً ومتعاضداً برغمها. لا بد من وقت قد يكون طويلاً، وقد نفكر ان الاستبداد في مصر وسوريا وتونس وليبيا واليمن لم يشيد بناء بحجم وصلابة ولحمة ما شيده الشيوعيون في روسيا وأوروبا الشرقية. قد نفكر هكذا بدون ان ننتبه إلى ان الاستبداد في مصر وسوريا امتد عقوداً، وانه خيم على الحياة كلها وأعاد حياكتها وتغلغل في مسامها على النحو الذي يجعلها بكل جزيئاتها في يده وتحت سلطانه. انه استبداد طويل العمر وبطبيعة الحال كون مجتمعا على مزاجه وعلى قدر حاجاته، وبالطبع اندس في كل شيء واختلط بكل شيء وطبع كل شيء، ليس استبداداً بالقوة الايديولوجية التي للاستبداد الشيوعي لكنه استبداد بني على استبداد وزرع في الاستبداد. إذ لا نعرف تاريخا ديموقراطيا لهذه البلدان، سوى تاريخ محاصر مسلوق سيئ الصناعة وسيئ الهضم وسيئ الاستيعاب وقاصراً عشوائياً، ثم انه تاريخ بني على انقسامات لم تحسم تاريخياً، ولم يتوفر ظرف لتصريفها فبقيت صلبة وتراكبت معه واندمجت وصارت شيئاً واحداً.
مع ذلك لا خيار لنا. سنكون سذجا إذا نسبنا للاستبداد الاستقرار والتنمية والسلم الاجتماعي، سنكون جهلة إذا لم نر في ما يجري الآن زرع الاستبداد وجذوره، لا خيار لنا، نحن مع الثورة وينبغي ان ننتظر، بل ان نتعلم الانتظار فالاستبداد الذي يبدأ بالرعب وينتهي بالمجازر لن يكون سوى الجحيم نفسه. لقد نجح في ان يحول العنف إلى بنية للمجتمع وإلى أساس وينبغي ان ننتظر وربما طويلاً حتى نقتلعه من جذوره ونصل إلى طلائع الديموقراطية.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى