حــــــذار الـحــمــــــاقــــــة! (ميشيل كيلو)

ميشيل كيلو

 

هَجَّرَت مدفعيةُ النظام عددا كبيرا من مسيحيي مدينة حمص، وهجرت تصرفاته العنيفة أعدادا لا يستهان بها من مسيحيي حماه، وذهب هؤلاء وأولئك إلى منطقة وادي العيون ووادي النصارى، التي يقطنها مئات آلاف المسيحيين الأرثوذكس، حتى ليقدر من فيهما بنيف وقرابة ثمانمائة الف مواطنة ومواطن .
وكان النظام قد حاول استغلال هذا الوضع بترويج انباء كاذبة حول قيام «الارهابيين» بتهجير المسيحيين من حمص، غير ان منتسبي الجيش الحر من مسيحيي المدينة نقلوا صورة حقيقية لما جرى تقول إن التهجير تم بسبب القصف المدفعي والصاروخي الرسمي، وان من غادر حارته او بيته تلقى وثيقة تتضمن تعهدا بأن يغادره ساكنوه من ابناء الأحياء الاخرى، الذين اضطرهم القصف عينه لهجر منازلهم واللجوء إلى أحياء المسيحيين، بمجرد عودة اصحابها او اي فرد منهم إليها، بينما أجرت لجان شعبية جردا لما في البيوت من أثاث وأدوات كهربائية وتجهيزات، وتمت بالفعل إعادة المنازل إلى أصحابها، حين عاد هؤلاء ولو لبضعة ايام إلى مدينتهم من المناطق التي تم تهجيرهم اليها .
وحدث شيء مخيف كذلك، هو أن بعض الكتائب الجهادية هدد المسيحيين في منطقة الغاب، وبالتحديد في بلدتي محرده والسقيلبية وسط سوريا، بالويل والثبور وعظائم الامور، إن لم يطردوا عسكر النظام وشبيحته من بلدتيهما، الامر الذي أثار موجة ذعر كبيرة بين الأهالي، الذين لم يشاركوا يوما في القتال ضد «الكتائب» او «الجيش الحر»، وقاموا بإيواء الآلاف من اخوانهم مسلمي منطقة الغاب وقراها في بيوتهم، واكرموا وفادتهم وعاشوا معهم على «الحلوة والمرة»، كما يقول اللسان العربي، عندما هجرهم النظام بالقوة من قراهم على الجانب الشرقي من الغاب وخاصة من قلعة المضيق. هذا التهديد استغلته السلطة للزعم بأن هناك مخططا اصوليا لتهجير المسيحيين من وطنهم يشبه تهجير مسيحيي العراق على يد هؤلاء، وبأن القوى التي فعلت ذلك هناك ستقوم به هنا، وزاد من تأكيدها على هذه الاكذوبة ان مسيحيي قرية «المسمية» الحورانية في اقصى جنوب سوريا تلقوا تهديدات مماثلة من «جبهة النصرة» طاولت وجودهم فيها، بحجة انهم يدعمون الشبيحة وجيش النظام .
لمن لا يعلم من «جبهة النصرة» وغيرها من الجبهات: تضم منطقة وادي النصارى اكبر تجمع مسيحي في المشرق العربي، وهي على تماس يومي مع مناطق مسيحية في لبنان، لذلك فكر الفرنسيون بضمها إلى دولة مسيحية هناك مقابل ضم طرابلس والمناطق المسلمة المحيطة بها الى سوريا، لخلق أغلبية مسيحية كاسحة في بلاد الارز. ولولا مقاومة مسيحيي الواديين وموقف الموارنة الذين ربما خافوا الغلبة العددية الأرثوذكسية، وخشوا فقدان مكانتهم المميزة بين نصارى لبنان، لربما كان المخطط قد نفذ. إذا أضفنا إلى ذلك أن بعض المتعاونين مع السلطة من عملائها المسيحيين، شرعوا يحرضون سكان الواديين على طلب السلاح وتدريب عشرات الآلاف من شبابهم على استعماله، وانه يوجد الى جانب هؤلاء عشرات آلاف الشبان المدربين عسكريا بحكم خدمتهم في الجيش والقوات المسلحة، وراعينا أن المنطقة واسعة المساحة وفيها كتلة مسيحية تكاد تكون خالصة، وانها تشطر أو يمكن أن تشطر وسط سوريا وتقطع طريق حلب عند حمص وحماه، وطريق اللاذقية ومدينة طرطوس في الساحل، أدركنا أية حماقة تكمن في دفع هؤلاء السوريين إلى احضان النظام، وفي قتالهم إلى جانبه، ومن إطالة لامد الحرب وتحويلها إلى حرب أهلية بأسوأ معاني الكلمة، وأخيرا من خلق شريط أرضي واسع جدا وجبلي يربط طرطوس بحمص، التي قيل لبعض الوقت إن معظم سكانها قد هجروا او طردوا منها لانها ستكون عاصمة دولة علوية، لن تقتصر، على انضمام الواديين، الى الشريط الساحلي، وانما ستقوم في القسم الشمالي الغربي والأوسط من سوريا، لتقطعها إلى نصفين ستتحكم فيهما تحكما مفتوحا، ادركنا أية جريمة يرتكبها المتطرفون بحق وطننا وشعبنا إن هم هاجموا محردة والسقيلبية والمسمية، علما بأن هزيمة من سيقاتلونهم من المسيحيين هنا لن تكون سهلة. إن نحن تجاهلنا معنى نشوب معركة بهذه الأبعاد وعلى هذا القدر من التشابك مع اوضاع بلدان مجاورة وخطط تعدها دول كبرى تعمل بصورة تكاد تكون علنية لتقطيع بلادنا واعادة تركيبها كفيدرالية اقليات وطوائف. بعد حرب أهلية طويلة يجب فعل المستحيل كي لا تنشب في وطننا، لاي سبب كان، بما في ذلك سياسات التهديد والوعيد الطائفية والمذهبية العمياء، التي لا تراعي مواطنة او شراكة في وطن او دين او شراكة تاريخية وانسانية بين بنات وابناء الوطن الواحد .
بذل شعبنا قدرا من التضحيات يُلزِمُنا جميعا بالحرص على انتصاره، فلا يجوز بأي حال ان يُخضِعَ مصيرَهُ لهذا القدر المخيف من الاستهتار والاستخفاف، كي لا تتبدل موازين القوى تبدلا حاسما وانقلابيا بينه وبين النظام، ويكون لحكامه فرصة القضاء عليه اليوم مثلما قضوا عليه العام 1982.
هل يحق لنا تجاهل ما يجري، لأي سبب كان، إن كانت هذه مساراته ونتائجه؟ وهل يحق لأي فصيل تهديد انجازات شعب قدم الغالي والنفيس في سبيلها، وكاد يجني ثمرتها الرئيسة: حريته وكرامته، لمجرد انه قرر منفردا وبد ادنى من الشعور بالمسؤولية القيام بحملات تطهير مذهبي لا تسوغه ثورة ولا يقره خلق او دين ولا تجيزه ضرورات الانتصار في معركة الموت والحياة التي يخوضها شعبنا؟ وهل يحق، اخيرا، لأي كان، إبقاء هذه الأسئلة من دون جواب عملي وحاسم، واتخاذ موقف المتفرج منها؟ وهل يحق أخيرا لهيئات التمثيل الوطني السوري، كـ«الائتلاف الوطني» و«القيادة العسكرية العليا المشتركة» السكوت عليها أو على من يهددون وحدتنا الوطنية؟
هل يجوز لثورة تعد نفسها بهزيمة نظام استبدادي متمكن ان تفتقر الى نواظم ومعايير سياسية واجرائية ملزمة لجميع اطرافها وفصائلها، تتصل بوحدة وسلامة الجماعة الوطنية بمختلف مكوناتها؟ وهل يحق لها السكوت عن تصرفات طرف منها، ايا كان حجمه ودوره، تهدد هذه الوحدة وقد تقلب علاقات القوى لمصلحة النظام؟ الا يجب ان يكون ما حدث حافزا يدفعنا الى وضع هذه المعايير، كي لا تتكرر غلطة السقيلبية ومحردة والمسمية، خاصة ان النظام يمكن أن يفتعل أحداثا تدفع الأمور نحو مزيد من الخراب الذي لا يمكن إصلاحه وسيورثنا معضلات ستعرقل عودتنا إلى حالنا الطبيعية كشعب، بعد أن نتخلص منه؟
ليست الثورة بحاجة إلى مشاكل فرعية تنهمك فيها فتستنزف جزءا مهما من قدراتها وطاقاتها، وتخلق تناقضات بين اطرافها لا يعلم احد ما قد يترتب عليها من نتائج وخيمة قد تودي بحياة عدد كبير من مواطنينا، يضاف الى أعداد من تقتلهم السلطة يوميا. ولا بد من توجيه جميع الجهود الى الهدف الرئيس، الذي يجب أن لا يكون لدينا اي هدف سواه، الا وهو: انتقال بلادنا الى الديموقراطية في اطار وحدة دولتنا ومجتمعنا، وإلا كان انتصارنا غير مضمون. بغير ذلك، سنقتل حلمنا في الحرية بايدينا، وسنعود الى عبودية يستشهد الآلاف منا كل اسبوع في سبيل التحرر منها، ويعد قضاؤنا عليها التعبير الرئيس عن إرادتنا الوطنية الجامعة، التي لا يجوز لأي منا أن يشذ عنها لأي سبب أو حساب جزئي كان، ما دام انتصارنا محالا بجهد أي تنظيم بمفرده!

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى