حفل «مبايعة» بحضور بايدن: ابن سلمان رابحاً أوّل
كان لوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، ما أراد من اجتماعات جدة، التي تحوّلت إلى حفل «مبايعة» له أميركيّاً وإقليميّاً، حاكماً للمملكة. وفي الوقت عينه، أظهرت الأنظمة الخليجية، كل على حدة، وبعيداً عن أيّ تعاون عسكري إقليمي – كما أوحى عنوان قمة جدة المغاير لمضمونها الحقيقي – قدرةً على إعادة صياغة دورها، بوصْفها قوى يتصارع على مرضاتها الكبار، بسبب تحكُّمها بحصّة كبيرة من إنتاج النفط والغاز في العالم
أصبحت الدرب سالكة تماماً أمام محمد بن سلمان لتولّي عرش السعودية، بعدما كسر حلقة الاعتراض الأخيرة على صعوده إلى قمة السلطة، بصورة دراماتيكية لم يكن ليحلم بها، لولا ترهُّل إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن. وكما هو دأبها، تخلّت أميركا، مرّة جديدة، عن حليف راهَن على دعمها، وخُدع بشعاراتها حول الحقوق والحريات، وتمثّل هذه المرّة في المعارضة السعودية، بشقَّيْها الداخلي الذي يضمّ كباراً من أفراد أسرة الحُكم وعدداً كبيراً من رجال الدين المؤثّرين وشيوخ عشائر والمئات من الناشطين، والخارجي المؤلّف من مجموعة منشقّين موزّعين على عدد من الدول الغربية، فُتحت لهم المنابر، وشعروا للمرّة الأولى بأنه صارت لهم قضيّة تتبنّاها قوى كبرى، بما أعطاهم أملاً بإمكانية إجراء إصلاحات جوهرية في النظام المغلق، تتيح قدراً من المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، ولو بعد حين.
لم تتحقّق الغاية الرئيسة التي أرادها بايدن من زيارة السعودية. ففي اللحظة التي كان فيها يضرب قبضته بقبضة ابن سلمان، كان سعر النفط يسجّل ارتفاعاً إضافيّاً يعيده إلى المئة دولار للبرميل، بعد تراجعات شهدها قبل أسبوع، لأسباب أهمّها مخاوف من ركود عالمي يلوح في الأفق. أمّا بمقاييس وليّ العهد السعودي، فإن اجتماعات جدة مثّلت نجاحاً فاق المتوقّع، لم يسَعْ أنصاره إيجاد التعبيرات المناسبة لوصفه، والتي عبّرت عنها بشكل أفضل الابتسامات العريضة على محيّا «كحيلان العرب»، كما سمّاه بعض أنصاره، والذي بدا ممسكاً بخيوط اللعبة، بشكل لا يرتبط فحسب بالعلاقة المتوتّرة مع الرئيس الأميركي – وهي لم تَعُد مهمّة بالنسبة إليه كون الضيف، وبحكم العجز، إن لم يكن السياسة، لن يبقى طويلاً في الميدان -، وإنّما ستكون له آثار عميقة على مستقبل العلاقات السعودية – الأميركية نفسها في عالمنا المتغيّر.
وعكَس السؤال الساخر الذي هتفت به صحافية أميركية من بعيد لبايدن: «هل ما زالت السعودية منبوذة؟» على وقْع ابتسامات ابن سلمان الساخرة، حقيقة مرّة للهشاشة التي وصلت إليها الإمبراطورية الأميركية، وظهّرتها حرب أوكرانيا، والتي يُحمَّل بايدن شخصيّاً مسؤولية كبيرة عنها. ولذا، شُحذت السكاكين قبل عودته إلى الولايات المتحدة، من قِبَل مَن كانوا مؤيّدين له خلال حملته الانتخابية، ويشنّون عليه حالياً حملة قاسية، تركّز على تخلّيه عن وعوده الانتخابية بطريقة مفضوحة.
مع ذلك، من الصعب تصوّر أن يكون ابن سلمان، الذي لم يترك ورطة إلّا أقحم نفسه فيها منذ تولّيه ولاية العهد عام 2017، هو الذي «هندس» عملية استدراج بايدن إلى رمال المؤامرات الخليجية، أو أن يكون قد اكتشف بنفسه فائدة اللعب على التناقضات الدولية بالتزامن مع تراجع المكانة الأميركية. الأرجح أن كسل بايدن هو الذي أنقذه من اندفاعاته. وليس وحده الذي فعل ذلك، وإنّما جاراه نظراؤه من حكّام الخليج الذين رفضوا شراء البضاعة الأميركية الكاسدة المتمثّلة بتحالف إقليمي لن يفيدهم في شيء، وإنّما غرضه الوحيد إحياء التحالف القديم ضدّ موسكو مجاناً، في حين تفضّل تلك الدول التي لدى أنظمتها هواجس من شعوبها أوّلاً، ومن دول الجوار ثانياً، ومن بعضها البعض ثالثاً، العمل على الصعيد الثنائي، سواء في العلاقة مع أميركا أو مع إسرائيل أو مع روسيا والصين وإيران وتركيا، بسبب الخلافات العميقة بينها، والتي لم تحجبها العناقات الطويلة التي استقبل بها ابن سلمان ضيوفه. فلَم يمرّ الزمن بعد على تآمر الأخير على معظم القادة المشاركين في القمّة.
لجأت الأنظمة الخليجية، أو بالأحرى تلك التي تلعب بالنار خارج حدودها من بينها، إلى الارتباط بحبل سُرّي مع إسرائيل، جرّت من خلاله بايدن إلى ملعبها، لإعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة بشروط أكثر ملاءمة لها، مع الاحتفاظ بعلاقاتها المعزّزة مع كلٍّ من روسيا والصين، لتُعمِّق أزمة «النعسان» في الداخل الأميركي، الذي جاء إلى جدة للتخفيف منها قبل انتخابات الكونغرس النصفية في تشرين الثاني المقبل، ولا سيما أنه سمح في تهشيم صورة بلاده كقوّة عظمى، من خلال تقبُّله المهانة، وتحديداً من قِبَل ابن سلمان، الذي قارعه «الحجّة بالحجّة» في موضوع حقوق الإنسان. فعندما قال بايدن، متوجّهاً إلى الداخل الأميركي، إنه أثار مع مضيفه قضيّة مقتل جمال خاشقجي، عمد ابن سلمان إلى تسريب روايته الخاصة للقاء، قائلاً إنه استحضر من جانبه، الانتهاكات الأميركية في سجن أبو غريب في العراق، واستشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة.
أماحكاية الأمن الإقليمي وتكامل القدرات الدفاعية ضدّ إيران التي حاول بايدن إغراء الخليجيين بها، فهي ما أوضح الأخيرون له أنهم غير معنيين بها، هم الذين خبروا تماماً هذه الوعود الخادعة، حين كانوا يعتمدون حصراً على الحماية الأميركية، وشاهدوا بأمّ العين كيف تتخلّى الولايات المتحدة عن حلفائها عند أوّل مفترق، حين تقتضي مصالحها ذلك. مثلما أدركوا أنهم لا يستطيعون مواجهة إيران، حتى إذا تحالفوا مع إسرائيل تحالفاً عسكرياً كامل المواصفات. وهم ما انفكّوا يوضحون لطهران أن كل ما يفعلونه، بما في ذلك التطبيع مع الكيان، سرّاً أو علناً، إنما هو بهدف حماية أنظمتهم، لا تشكيل تحالفات ضدّها.
معروف عن الأنظمة الخليجية أنها «تجوهر» في أوقات الأزمات التي تدفع أسعار النفط صعوداً، فيأتي ازدهارها على حساب الدول المستهلكة للنفط التي تنغمس في أزمات اقتصادية ومالية وحتى غذائية، كما يحدث حالياً. في السابق، كانت أميركا تحصل على حصّة كبيرة من هذا المال ثمناً لحماية الأنظمة الخليجية. لكن ما يحصل اليوم مختلف. ويأتي متأخّراً كثيراً توعُّد بايدن بأن لا يترك في المنطقة فراغاً تملأه الصين وروسيا، وهي المقولة التي سبقه إليها سلفه دونالد ترامب واحتاج هو إلى سنة ونصف سنة للعودة إليها، ليجد الشرق الأوسط على صورة معاكسة تماماً لما يشتهيه. صار الخليج الذي نشأت دوله كمحميات بريطانية، ثم تحوّلت إلى قواعد عسكرية أميركية، اليوم، أحد الشواهد على انتهاء الأحادية الأميركية في قيادة العالم. فمنذ أن سحبت الولايات المتحدة الكثير من قواتها وأصولها العسكرية منه، ولم تَعُد مستعدّة لاستخدام هذه القوات في الدفاع عن الأنظمة، انتفت الأفضلية التي كانت تتمتّع بها على منافسيها الدوليين، وخاصّة الصين وروسيا، ما دامت واشنطن نفسها عندما تُجري مقارنات في هذا الشأن، تفاخر بأنها وحدها مَن ترسل قوات إلى خارج الحدود لمثل هذه الأغراض.