حفنة ملايين البشر
” لا تحوّل المذبحة إلى عرس وطني ، أيها المندوب الحصري للموت”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي شيء يمكن أن يكون ساماً، وأي شيء دواء. وأي شخص نذلاً أو عبقري اللطف البشري.وحين تبدأ الحرب تزين نفسها بالأعلام، وتزركش بدلات عرسها الدموي، بالزغاريد، وأي نصريكون هزيمة، وأي هزيمة يمكن أن تكون نصراً ،حين تختلط الأهداف ببعضها اختلاط السم بالترياق، والحقيقة بالضلال.
وحين نتمعّن بما حدث في سورية، وهو كارثة، مرشحة لأن تكون كارثة الحياة، في هذا العصر، وفي نفس الوقت يمكن على أهبة الاحتفال بتوقف زحفها إلى حلول موجودة في الواقع، ومترددة في الإرادات، وصعبة في حساب التنازلات.
عندما أتمعّن بها أجد أن الذين صنعوها حفنة من الرجال، مهما كانت رتبهم ومراتبهم وأهدافهم ووسائلهم في كل الساحات والميادين، ثم تنمو “الحفنة” لتصبح “حفلة”. وتكون رجالات ثم تغدو دولاً، أو تكون دولاً يتصرف بقرارها الرجالات. وفي كل الأحوال… هم حفنة من الرجال.مجرد حفلة من الرجال . في المقابل، في الطرف الآخر من الغابة، أو العمارة، أو حقل الشوفان، أو ملعب الأيام… ثمة أيضا ، حفنة من الرجال، أمعنوا في الفرجة الملتهبة على الدمار، ورأوا كل ما لا يرغبه البشر في كل حياتهم… أمعنوا النظر، البصر، البصيرة وقالوا: مع ذلك ، برغم ذلك… من سيعمّر هذا الخراب … حفنة أخرى من الرجال !
كل القصص، والتراجيديات الكبرى…
كل البطولات والخذلانات…
كل أنواع الألم والفرح والغزل والفراق
كل أنواع الحروب والسلام… هي:
فقط حفنة من البشر…
في لحظة ما ، يكونون من جماعة الشنق المتقشف في الصباح الباكرللمجرمين الجنائيين.. كي لا يرى الناس لحظة الموت… كي لا تذبل باكراً ابتسامة الناس.
وفي لحظة أخرى ، يكونون من جماعة السكين على عنق، أمام بحر وأمام كاميرات وضعوا لها سينوغرافيا حديثة، لكي يكون الموت نوعاً من الفتك على الهوية، وأمام الملايين. لكي تذبل ابتسامة الناس وتختفي ويصير الناس ابناء اللحظة القاسية.
كي يطيع الناس أسياد مصيرهم في الفريقين.
كي يصبح ترويض البشر نوعا من نزع سلاح ثقافةالمعنى والنجوى والتقوى.
كي تذهب، حين يقررون أن تذهب إلى الموت، وأنت في كامل يأسك من الرحمة .
وما دام الأمر كذلك، “اذهب إلى الموت بكامل لياقتك”… أنا الذي يكلمك الآن عن الفروقات بين مشنقة الصباح الباكر،المتقشفة والمحتشمة، وتلك التي صورها للتو مخرج الجماعات الفرحة بأنشودتهم الجديدة “العنق والسكين”… أقول لك إنه لم يوجد ، في أي يوم ، ذلك الموت الرحيم : طلقة الرحمة القصيرة السريعة، لحظة الدمع على قرار الموت. لم يكن هذا الموت الرحيم إلا على يد الهنود الحمر، الذين يقتلون جيادهم كي لا تتعذب بعد أن تثخنها الجراح.
أحياناً يسألني الحاجز العسكري: ألديك سلاح؟ أحياناً أجيب في نزق: أبداً… أبداً. ولن يكون.
يستغرب العسكري. وأمضي في طريقي وأستغرب هذا النفور الذي أعرف معناه: إنه نفورمن التباهي ، مسبق الصنع ، بأداة صناعة الموت. التفاخر بالحربة والبلطة والسكين، وأدوات زينة الموت الكبير. مسرح لا بد من دخوله، أورؤيته في العراء ، كمتفرج مجبر في خدمة “الفرجة الإلزامية” على الخراب. وعلى الموت العمومي .
لكن الحياة، بوصفها واحدة من أكبر الهدايا الممنوحة ، عبثاً أو دون مناسبة لائقة بالإنسان ، تعرف، أكثر منا ، هذه المعادلة البسيطة، أو هذه الصياغة البسيطة للمعادلة:
هناك حفنة أفراد قرروا الحرب واستمرارها.
ولكننا ، على يقين ، بأن هناك حفنة اخرى يقررون بيئة السلام واستقرارها.
حفنة؟
هل قلت عن مئات الملايين… حفنة؟
أعتذر…