حقيبة سوداء مليئة بالأخضر!
1ـ
أبو الورد في السنوات الأخيرة صار يحلم بحلٍّ جذري لمشاكله المالية، وانحصر حلمه بأن يتعثر في الطريق بحقيبة سوداء مليئة بالأخضر.
هكذا تواردت الأفكار على مخيلته، فالجميع يسمّون العملة الصعبة بـ (الأخضر)، والأخضر يحل المشكلة طيلة العمر.
لم يكن أبو الورد طماعاً فقد ورث عن أبيه أن القناعة كنز لا يفنى، ومرة استعاد هذا التركة، فتوقف عند كلمة (كنز)، واكتشف أن القناعة كنز لا يطعم خبزاً..
أطلق ضحكة صاخبة رنانة. شاهدته أم الورد يضحك وهو يجلس وحيدا ، فصاحت بدهشة:
ــ بسم الله حولك وحواليك ، جُنّ أبو الورد ؟!
2 ــ
هذه الأحلام كانت تراوده أثناء العمل، وعملُه كان يرتب عليه أن يمشي كل يوم مسافات طويلة، قد تمتد من شرق المدينة إلى غربها، وكان يتعب ، وأحيانا يشعر أنه بحاجة إلى الجلوس على الرصيف أو على مقعد في الحديقة، إلى أن اكتشف الحل ، وهو حل لا يشعر به صاحبه إلا فيما بعد .
عندما اكتشف الحل، لم يعد يتعب، بل صار يسير بحماسة أكبر، وصار وجهه أكثرَ إشراقاً، وربما كان المارة يسمعون أفكاره لأنه يستعرضها بصوتٍ عال، وفي آخر مرة أحسّ بحذائه وقد اهترأ ، فاستعاذ بالله وقال بصوت عالٍ :
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله .
وأضاف :
ــ هذا يعني أن علي أن أدفع نصف راتبي لشراء حذاء جديد !
3 ــ
كم يمكن أن تتسع الحقيبة ؟
تتسع لعشرين أو ثلاثين رزمة على الأقل، والرزمة تساوي عشرة آلاف من الأخضر، أي أنها قد تحتوي نصف مليون أخضر، (وعدّي ياعدادة ) ..
سأشتري بيتاً بدلاً من بيت الأجرة الذي أسكنه، وأشتري سيارة صغيرة ، بدلاً من دفع ثمن حذاء جديد بين فترة وأخرى نتيجة المشي، وسأشتري لأم الورد إسوارة من ذهب، وأدفع لورد كلّ ما يحتاجه ليدرسَ في بلاد الغرب..
هذه أحد موجات الأحلام التي راودت أبو الورد في طريقه اليومي.
وذات مرة وجد الحقيبة !
4 ــ
قبل أن يجد الحقيبة بيومين فقط ، ذهب مطأطئ الرأس إلى الحذّاء، وجد أربعة أو خمسة أشخاص ينتظرون إصلاح أحذيتهم، وهذا يعني أن عليه أن ينتظر، لذلك طلب من الحذّاء أن يستثنيه من الدور، قائلاً :
ــ إذا سمحت أنا مستعجل، وعلي أن أصل إلى عملي خلال ربع ساعة !
احتج الحذاء على هذا الطلب ، وأخبره أن الناس تنتظر مثله ، وأن أحداً لا يمكن أن يقبل بتجاوز الدور ، وأضاف ساخراً :
ــ إلا إذا كنت آغا ، وهؤلاء الناس أتباعك ، عندها لماذا تأتي إليّ ، اذهب واشتري حذاءا جديدا يا آآآآآآغا !
كانت الكلمة الأخيرة ممطوطة، فضحك الزبائن الذين ينتظرون إصلاح أحذيتهم ، أما أبو الورد فشعر بالخجل، ومشى دون أن ينتظر إصلاح الحذاء.
5 ــ
أصابت الكآبة (أبو الورد)، فلم يجلس على المائدة رغم إلحاح أم الورد على تناول الطعام ساخناً. جلس على كرسي صغير قرب الباب، وقام بخلع حذائه وشرع يفتش عن حل يساعده على الاستغناء عن إصلاحه.
لم يكن الحذاء قادراً على الصمود أكثر، فالمشي يعني انفصال النعل والكعب عن الجسد الجلدي الذي يغطي القدم اليمنى، وهذا يعني أنه سيكون أمام فضيحة في عرض الشارع ، فكيف سيتابع عمله بقدم بلا حذاء.
بعد خمس دقائق وجد حلاً ، لكنه لم يخبر زوجته أم الورد، بل ناداها :
ــ انتظري لا ترفعي أطباق الطعام ، أنا جائع .
وضحك !
6 ــ
في اليوم التالي، أي في اليوم الذي وجد فيه الحقيبة السوداء، ارتدى أبو الورد الفردة اليسرى من الحذاء، ولفَّ قدمه اليمنى بخرقة بيضاء، وبحث عن (شحاطة) بلاستيك واسعة وانتقى واحدة ، فحشر قدمه الملفوفة بها، ثم انطلق يمشي ، وكأن قدمه مصابة ولا يمكن حشرها في حذاء .
حمل كيساً صغيراً يخفي أحد زوجي الحذاء الذي يحتاج إلى إصلاح ، وأودعه عند الحذّاء، وقال:
ــ عند الظهر سآخذه منك، ولكن لا تجعلني أنتظر أرجوك ..
هطل مطر غزير، تبللت الخرقة البيضاء، وظل أبو الورد يمشي دون كلل، لكنه تجاوز المحنة بعودة مخيلته إلى الحقيبة السوداء.
7 ــ
فجأة ظهرت الحقيبة السوداء.
ركنها صاحبها بعناية عند مدخل أحد الأبنية في حي الأثرياء. تشبه الحقائب الدبلوماسية، لكنها عتيقة استوقفت أبو الورد ، وصرخت أعماقه :
ــ هاهي !
راقب المكان جيداً ، فلا أحد من حوله يقاسمه الرزم التي فيها، ولا أحد يمنعه من أخذها، وبهدوء شديد انحنى أبو الورد ، وحملها، وكأنها ملك يمنيه، ثم رفع ظهره ومشى بثقة كبيرة في النفس ، وكان رباط الخرقة البيضاء المبللة بماء المطر قد فك، وراح يسير خلفه ساحباً بعض الأوراق وشيئا من الطين.
8 ــ
لم يذهب أبو الورد إلى عمله في ذلك الصباح، ولم يعد إلى الحذاء كما اتفق معه، مشى في طريق العودة إلى البيت، يستعيد كلًّ أحلامه دفعة واحدة. وصل إلى البيت وهو يستعيد نصائح أبيه البالية عن القناعة الكنز التي لاتفني، وهمس عند باب البيت مزهواً:
ــ هه . قال قناعة . قال كنز قال ..
في البيت فتح الحقيبة. في البيت لم يلتفت إلى زوجته التي فوجئت بعودته، دخل غرفته بسرعة وفتح الحقيبة ، قال قناعة قال كنز قال ، ولم يفاجأ أبداً بما وجد ، كان في الحقيبة حذاءً أخضرَ لمّاعاً يليق بقدميه المتعبتين من مشاوير النهار بحثاً عن أحلام ضائعة !