حكاية
حكاية … عندما أكون في قريتنا “عين البوم” أقوم بزيارة لواحدة من نساء روايتي “إلى الأبد … ويوم” الصادرة منذ 13 سنة. واسمها في الرواية “علياء”، وفي الواقع “زبيدة”، وقد تجاوزت الثمانين، وكانت جميلة الجميلات، وكان يفترض أن تكون زوجة أخي، ولكنه سبقها إلى الموت في إحدى معارك حرب تشرين/ أكتوبر 1973… وهكذا يئست فتزوجت.
كانت كلما أتيت لزيارتها… تحاول أن تقدم لي صحن تلك الأيام: الزبدة والعسل والجوز، وتسألني كل مرة عن أحوالي بالتفصيل كأنما لأول مرة… وكنت أرى وجهها وجه تلك الأيام.
في آخر زيارة إلى علياء… رأيت بابها مغلقاً، ويعلو قفله الصدأ كعادة أبوب الغائبين، وحارتها لا حياة فيها وحين سألت قيل لي: “سلامة راسك… ماتت”.
عليا ماتت؟ أظن أنها تابعت ذبول صباها… قلت لنفسي.
وعندما عدت إلى بيتي كان حزني يمسك بيدي ويقول لي: تذكّرها.
أمسكت بروايتي وفتحت على صفحات علياء… قرأتها… وها أنذا في حضرة سلامها النبيل أعيد بعض سطورها:
تزوجت علياء أحد الذين كان يأسهم منها قد حوّله في كل الأعراس إلى أجمل مَن أمسك قصبة مثقوبة، ليكون، حين ينفخ فيها لحنه، كأنما هو الأخير، لفرط ما تبدو رئتاه مربيّة لقطعان الرياح.
كان اسمه إبراهيم ولقبه هو صفته “الزمّار”. وكان في كل عرس القائد الأعلى لحفلة جنون أرجل الراقصين ونهود الراقصات.
علياء كبرت في الأعراس، وفي الحقول، ومع الأيام، وكان حلم واحد يراودها: اللقاء بأخي منير… إن لم يكن في أيامنا الجاريات، ففي أزمنة أخرى وأجيال أخرى.
صنع لها إبراهيم الزمار كوخاً في شجرة توت ضخمة استخدم فيه كل أصناف الأغصان (وكل أصناف الروائح)، وأنجز سلماً مجدولاً من الحبال، للصعود إلى العش. وحبلاً في نهايته سلّة تستخدم كمصعد للفواكه وحاجاتهما في ليالي العسل… كان بيتاً مما يحلم به العشاق.
في يوم الزفة الأخير، وهو اليوم السابع من العرس… حدث شيء ما تزال أجيال تلك القرى تتذكره، وتحكيه.
وحتى اليوم لا أحد يمر من هناك… إلا ويتلفت إلى تلك الشجرة وذلك الكوخ، وقد أصبحت هرمة وأغصانها مكلّخة والكوخ متناثراً في اتجاهات الريح.
الذي جرى أن إبراهيم في اليوم السابع… استعار من أقوى الرياح الشرقية والتي تهب فتجعل الطبيعة عويلا غامضا وبعيد… ظل إبراهيم ينفخ وتدوي أنغامه في أرجل الراقصين وصدور الراقصات.
وفجأة… ينفجر قلبه. خيط دم سال من فمه، ومن فتحات الناي ثم مال قليلاً، كأنما يُسمع الأرض ألحانه، وترنح… ثم هوى ميتاً.
تتوقف الطبول… تتوقف الرياح.
ومن يومها، بقيت علياء تجلس كل يوم تحت شجرة التوت منذ 50 عاماً. تجلس ولا تقول شيئاً.
وفي الأعلى بين الأغصان، ثمة طائر غريب، ليس من أبناء المنطقة، كأنه من مملكة الجن، هو الوحيد الذي يقف في أعلى غصن يابس في الشجرة، ويتلفت في كل اتجاه… ولا يقول شيئاً”.
في الزيارة الأخيرة وضعت على قبرها عسلاً ولوزاً ورغيفاً… وبكيت.