حكــايــات لــم تــروَ مــن ليلــة الاستقــلال (نصري الصايغ)
نصري الصايغ
ماذا بقي من استقلال لبنان؟ أطلال للوقوف عليها؟ أليس في الذاكرة ما يشبه ربيعاً لبنانياً لم يزهر وطنا؟ صور الماضي، بعضها يشير إلى أن اللبنانيين يومذاك كانوا لبنانيين جداً، وعن جد، وأسقطوا الانتداب بقوة الشارع. واجهوا العسكر الفرنسي والجنود السنغاليين بصدورهم العارية، في بيروت وصيدا وطرابلس. كانوا رجالا ونساء وطلاباً. فرضوا على سبيرز ان يوجه إنذاراً لفرنسا لتتراجع. لعبوا على تناقض الاستعمارين اللدودين بريطانيا وفرنسا. رفضوا التعامل والتعاون مع رئيس عينته فرنسا بديلا من بشارة الخوري. ظل في السرايا وحيدا، إلى أن سقط. هنا حكاية الاعتقالات والتظاهرات ومحاولات اغتيال المعتقلين.
الجنرال ادوارد سبيرز يولم على شرف ضيفه ملك يوغوسلافيا. معظم الكلام ضمن سياق بروتوكولي تفرضه المناسبة، باستثناء حلقة ضمت المندوب السامي الفرنسي جان هللو ووزير خارجية لبنان، في حكومة الاستقلال، سليم تقلا. كاد الطرفان يثيران لغطاً: هللو غاضب مما أقدمت عليه حكومة رياض الصلح من تعديل للدستور، ألغى سلطة الانتداب، وتقلا يستدرج هللو لاستكشاف نواياه من دون أن يفلح. هللو يغضب وتقلا يقلق من عمل عسكري ما تقدم عليه فرنسا، رداً على القرار الاستقلالي الذي اتخذته السلطات اللبنانية.
تحت تأثير الجنرال سبيرز وأمامه، أقسم هللو بشرفه وشرف فرنسا بأنه لن يقدم على أي عمل عدائي حيال السلطة في لبنان، مؤكداً على حرصه وتقيده التام باحترام الحريات وتقديسها واعتماد الأساليب الديبلوماسية لإزالة العقبات وإطفاء الأزمات.
بشرى سارة إذا. خفَّ تقلا للقاء الرئيس بشاره الخوري قبل أن يأوي إلى فراشه. اطمأن الرئيس إلى قسم هللو، ونام على أمل افتقده عندما وجد نفسه قيد الاعتقال قبل الفجر بساعات، تنفيذاً لأوامر صدرت قبيل صدور البلاغ رقم واحد، معلنا الانقلاب الفرنسي على الاستقلال.
«أنقذوني أنقذوني… ولم يسمعه أحد»
أربع ساعات من النوم فقط، مرت قبل «القبض على الشرعية». يروي الشيخ بشارة الخوري ما جرى: «حوالى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل استيقظت وقرينتي لور شيحا على ضجة قوية في الدار الداخلية أمام غرفة المنامة… قمت وفتحت الباب لأرى ما يجري، فوقعت عيناي على جنود بحريين فرنسيين مسلحين بالبنادق وبرؤوسها الحراب، وبعض جنود سود (سنغاليين) مسلحين على الشكل عينه وصاحوا بي قائلين: «أخرج. أخرج… بسرعة». (DEGAGES).
خاف الرئيس، فأقفل الباب بسرعة بالمفتاح وأزاح السرير الحديدي الكبير ووضعه خلف الباب وتحصن خلفه، وظن أن هؤلاء الجنود قد سكروا ليلة عيد الهدنة، وعلموا بالخلاف بين الرئيس وبين المندوب السامي، فأرادوا الانتقام عبر اغتياله.
هرول الرئيس، كما يقول في مذكراته، إلى النافذة، وبأعلى صوته راح يستغيث بالجيران، لينبهوا البوليس، منعا من تنفيذ الاغتيال. ظل يصرخ ويستغيث من دون أن يلقى آذانا صاغية. «بدا لي الجو كأن الموت قد خيم على جوانب البيت». وحدها عقيلة الرئيس كانت تصرخ بأعلى صوتها: «أخرجوا من غرفة الصغيرة (ابنتها) أيها الجبناء».
ما العمل؟ ماذا يجري؟ من ينقذ الرئيس والحي بأكمله نائم بل ميت ولا اتصالات مع الخارج. من ينقذ العائلة؟ أسئلة كثيرة قطعها الباب الذي انفتح ودخل منه ابن الرئيس الشيخ ميشال، ومعه ضابط يحمل مسدساً ورشاشاً وقال بتهذيب فشل في اخفاء خشونة القرار: «أنت موقوف»، إنك متآمر على الدولة اللبنانية». «ولكني رئيس جمهورية مستقلة، ولا صفة للمندوب السامي ان يخاطبني»، قال الرئيس. أجابه الكابتان: «أمامك عشر دقائق لترتدي ثيابك». رفض الرئيس: «لا حاجة لارتداء الثياب… خذني كما أنا».
واتخذ الضابط صفة الآمر: «إلبس ثيابك بلا مجادلة… كل مقاومة عبث».
لم يكن الرئيس قد عرف أنّ المنزل الرئاسي قد طوّق بخمسين جنديا فرنسيا وكان أول ما ارتكبوه هو قتلهم للخفير على بوابة الحرس، واعتقال الحرس، وخلع أبواب الغرف بأعقاب البنادق.
العسكر هو العسكر دائماً…
بنادقه تتكلم عنه
بوحشية اقتاد الجنود أول رئيس استقلالي للبنان. كانت بانتظاره سيارة عسكرية مقفلة، أصعدوه إليها وسارت تنهب الأرض حتى بلغت عاليه. فسأل الرئيس: إلى أين؟ جاء الجواب: إلى راشيا موقتا، ولكن في المساء تعرف ماذا نفعل بك».
غادر الرئيس مكرها، مخلفاً عسكراً يعيثون في بيته ترويعا وتفتيشا وتخريبا. قلب العسكر أثاث البيت. صادروا كل ورقة واحتفظوا بها. سرقوا 1500 ل.ل. هي مدخرات طاهي الرئيس: خليل. كبير أنجال الرئيس، قبضوا عليه وأوسعوه ضربا بأعقاب البنادق وساقوه إلى حبس الأمن العام. ولما أفرجوا عنه هرول إلى مقر سفير بريطانيا العظمى ادوارد سبيرز. ولما حاول السفير الاتصال بالوزير البريطاني في القاهرة كايسي، وجد ان أسلاك هاتفه مقطوعة.
«هذه رابع مرة تعتقلني فيها يا ملعون»
انها الثالثة بعد منتصف الليل. رئيس الوزراء رياض الصلح يغط في نومه بعد نهار متعب ومكثف. قرع خفيف على باب البيت. تسمع الخادمة صوتا بيروتيا عتيقا: «افتحي، أنا أحمد»، إيهاماً لها بأن الطارق أحد أهل البيت أو المألوفين فيه. فتحت الخادمة زجاج الباب، فرأت أناساً غرباء. هرولت إلى غرفة سيد البيت وقالت: «ضيوف يسألون عنك». دائماً ضيوف الفجر يتشابهون… عسكر اثر عسكر، والمهمة اعتقال رياض الصلح. خلعوا باب غرفة النوم، شهروا مسدساتهم وتوجه أحدهم إلى سرير رئيس الحكومة، ولما فتح عينيه رأى فوهة المسدس فوق أنفه، بيد ضابط فرنسي (حضاري عريق) يحيط به ثلاثون جنديا فرنسيا وسنغالياً… صاح الضابط كعادة العسكر، فنهض رياض مهتاجاً، وانتهى المشهد بعد خمس دقائق فقط، كانت كافية ليلبس رياض ثيابه، ويتوجه إلى سيارة بانتظاره مخلفا أما تبكي وتنشج، وطفلتين مذعورتين، وزوجة صابرة رابطة الجأش، معتادة على مواجهة الاعتقال.
يروي رياض الصلح لمنير تقي الدين، صاحب كتاب: «ولادة استقلال»، ماذا كان يلازمه في سجنه في راشيا. كانت آخر صورة لزمته، مشهد أمه وزوجته وبناته مذعورات. وكان آخر صوت سجلته أذنه زفرات صغيراته. وحدث ان لمح رياض أحد رجال الأمن، وكانت له به معرفة سابقة، فصاح به قائلا: «هذه رابع مرة تشترك فيها باعتقالي يا ملعون».
«أنا عبد الحميد كرامي… اقتلوني»
قرار المندوب السامي، بعد البلاغ رقم واحد، هو اعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الوزراء، اضافة إلى النائب عبد الحميد كرامي. وحده بين النواب، كان مطلوبا «للعدالة الفرنسية».
يتذكر عبد الحميد تلك اللحظات الحاسمة. كانت الساعة الرابعة زوالية، من صباح الخميس الواقع فيه 11 تشرين الثاني 1943. عائلتي وعائلة شقيقي في الدار نيام. لا رجل في البيت. أصوات تكسر أبواب وتحطم أثاث. توقف ضباط فرنسيون وبعض الأمن العام «اللبناني»، وكلهم شاهرون الرشاشات والمسدسات إلى صدور النساء. يسألون: أين عبد الحميد؟ الجواب: ليس موجوداً.
تهديد بإطلاق النار، إذا لم يرشدوهم إلى مكان عبد الحميد. و«من المرجح ان بعض النسوة كن يحملن على ايديهن أطفالهن، ومنهم لم يتجاوز الخمسة أشهر والكبير في التاسعة من عمره. بكى الأطفال، فيما الأمهات استنجدن بالضباط والجنود رحمة بالأطفال المروعين، فزادهم الاستنجاد عتواً وصلفاً».
يروي عبد الحميد عن تلك الليلة ما أقدم عليه الجنود الفرنسيون: «اقتادوا ابني عمر (ابن سبع سنوات) وصوّبوا مسدساتهم إلى قلبه ودماغه وعيونه صائحين: قل أين عبد الحميد وإلا قتلناك. وقالوا لزوجة أخي عبد الله كرامي، سنهدم سقف البيت على رؤوسكم».
وعبد الحميد لم يكن في البيت في ذلك الليل الطويل.
إنه في مرياطة. على عجل مضوا إليها. هاجموا المنزل وحطموا الأبواب واقتحموا الغرف كلها. هب عبد الحميد من فراشه، فارتطم رأسه بفوهة بندقية يحملها سنغالي موجهة إليه، فأصيب بجروح طفيفة. وكان الجند يصيحون: أين عبد الحميد؟ من هو عبد الحميد؟ ظن أن الجنود جاؤوا لاغتياله، ففتح صدره وهو بلباس النوم وقال لهم: «أطلقوا رصاصكم، أنا عبد الحميد كرامي».
انقضوا عليه، حملوه بثياب نومه الرقيقة، مكشوف الرأس ولم يسمحوا له بارتداء ثيابه وسرقوا محفظة دراهمه ونظارته الذهبية. ساقوه بهذه الحالة الموجعة والأيام باردة. لا طقم يستر به جسمه ولا عباءة تقيه البرد، ولا حذاء في رجليه. وفي راشيا ظل خمسة أيام من دون طعام، غير ماء وعنب، لأن وجبة أسنانه كانت في ضيافة الضباط. وظل على هذه الحال إلى أن وجد كميل شمعون ثوباً على قياس عبد الحميد، فكساه، وقد كافأ عبد الحميد شمعون بأن أقام له احتفالاً بعد الإفراج وقال عنه: «كنت عرياناً وابن شمعون كساني».
لم ينج كميل شمعون وعادل عسيران وسليم تقلا من الاعتقال. اقتادوهم إلى راشيا، حيث بدأ فصل جديد من خلف الجدران، رواه بعض شهود ذلك السجن، حيث كانوا سجناء رأي وعقيدة، قبل موعد الاستقلال بسنوات.
راشيا… لا تعرف شيئاً
اكتمل نصاب الاعتقال في راشيا وأغلقت الأبواب. أنزل الرئيس في غرفة تنازل عنها آمر القلعة، وأنزل رياض في غرفة في الممر الثاني من القلعة، فيما وضع الوزراء والنائب في شبه «قاووش». وانقطع الجميع عن العالم، باستثناء زكريا اللبابيدي، أحد معتقلي الحزب القومي، الذي كان له أسلوبه الخاص في معرفة الأخبار وتسريبها الى السجناء. فاجأ رفيقيه جبران جريج وأنيس فاخوري بآية:
«سأبشركم بخبر سار». أنا اسمي زكريا. «وإنا نبشرك بغلام اسمه يحيى. اني أحمل جعبة أخبار ثمينة. كنت عند الزهار (مفوض الشرطة في السجن) وأخبرني بأن الدولة اللبنانية معتقلة».
سأله السجناء القدامى: ماذا تقول؟ الدولة معتقلة! كيف وأين؟
طبعاً، لم يكن يعرف نزلاء قلعة راشيا ما حصل بعد اعتقالهم. الاتصال بهم ممنوع. اتصالهم بالخارج محرّم. لم يعرفوا أن عصياناً عاما اندلع في بيروت. أهل بيروت تتصيدهم الشائعات: لقد سيق قادة لبنان إلى راشيا. لا. لقد اقتيدوا إلى القامشلي. لا. البعض شطح به الخوف إلى حد اعتبارهم مخطوفين في قلب غواصة فرنسية في عرض البحر. لا… بل أخذوهم إلى الجزائر… لا كانوا هنا في راشيا.
بيروت تغلي ضد الانتداب وسلطته. صبري حماده رئيس مجلس النواب وعدد من النواب تسللوا إلى البرلمان المطوّق بالسنغاليين. ظهراً، اقتحم هؤلاء البرلمان ودخل منهم عشرون جنديا، يتقدمهم ضابط شاهراً مسدسه. لم يتحرك صبري حماده ولا تحرك أحد من النواب. طلب منهم الخروج، فلم يذعنوا. أخيراً، أخرجوهم بالقوة، فيما كان رصاص الجنود ينطلق من أسطح البنايات في كل اتجاه… الذين أخرجوا من المجلس، التأم نصابهم في دارة صائب سلام، وسط حزام جماهيري يتسع ولا يضيق، إلى ان أعلنت السلطات منع التجول.
لم يكن يعرف نزلاء القلعة ما حصل في طرابلس، ولا ما ارتكبه الفرنسيون من انتهاكات. يروي شاهد عيان، فؤاد الولي، تفاصيل المجزرة التي ارتكبها الجنود في طرابلس. «عندما أعلن عن انتهاء الصلاة والناس كأنهم في يوم الحشر، فلا ترى موضع قدم. اعتلى الخطباء أكتاف الناس ينزلون سخطهم على المستعمرين… وبعفوية انطلقت تظاهرة من سوق العطارين إلى سوق الصاغة، ومنه مضت إلى ساحة التل، والشعار المرفوع: إطلاق سراح المعتقلين في راشيا.
طلاب المدارس داوموا على التظاهر. تجمعوا في ساحة جامع طينال ورغبوا ببلوغ مدرسة الفرير ثم إلى مقر بعثة سبيرز لتقديم احتجاجهم. هدير الدبابات قطع الطريق. دبابتان تتقصدان دهس المتظاهرين. أجساد تسقط. أقدام تقطع، ومن نجا من الدهس، كان نصيبه طلقات رصاص يطلقها ضابط فرنسي من الخلف. ضحايا ذلك اليوم تسعة شهداء، أربعة منهم دون العاشرة. لا يتذكرهم أحد اليوم ولا يستذكرون من تلك القافلة غير الشهيد سعيد فخرالدين الذي سقط في بشامون.
صحيفة السفير اللبنانية