حمدي العطار: ملامح الشخصيات في “ثلاثية محطات” الروائي حميد الحريزي يقدم: شخصيات شعبية من تيار الرواية التسجيلية في رواية (العربانة)
في الرواية التسجيلية او التوثيقية من المهم ان تكون الشخصيات (اكثر واقعية) ومن الاحسن ان تكون شخصيات (شعبية) قادرة على التعبير عن مرحلة تاريخية معينة، وهذه السلوكيات التي تنبع من المورث الشعبي تمثل طبقات الشعب الاكثر تضررا من الانظمة السياسية او من الاحتلال طالما جميع الدول العربية تعرضت الى الاحتلال وانظمة الحكم الفاسدة ومنها استلمت السلطات الدكتاتورية الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية والتي من الخطأ اعتبارها (ثورات) فاشلة!
ومن الروايات التي يمكن الاشارة اليها في هذا المجال هي روايات الروائي “عبد الحميد هدوقة” في رواية (نهاية الأمس) ورواية (ريح الجنوب) ، كذلك رواية (أولاد مزيونة) للروائي “غريب عسقلاني” وروايات (بدرية البشير) “هند والعسكر، وغراميات شارع الاعشى”.
قدم الروائي (حميد الحريزي) –ثلاثية محطات- (العربانة – كفاح- البياض الدامي) وهي تمثل مرحلة تاريخية زمنيا من 1952- 2005 ، تجمع هذه الثلاثية بين الدراما والمادة التسجيلية واعادة خلق الوقائع، اما المكان فكان متحرك بين الريف(المشخاب) في مدينة النجف ، ومركز مدينة النجف، لينتهي الجزء الاول من الثلاثية (العربانة) في السفر الى بغداد.تتصف الشخصيات في الرواية الى انها تنتمي الى الطبقات الشعبية وكانت معالجة تطويرها فنيا وفق المنهج التجريبي. وتشكل شخصية الفلاح الذي يرفض الاستغلال والظلم والاذلال (مظلوم) هي اساس البطولة في هذا الجزء الاول من ثلاثية ، وتبدو الاسئلة الفطرية عن الفقر والجوع والعبودية على لسان الفلاح مظلوم تمثل ما يسمى (الحس الطبقي) النابع من الانتماء وليس من القراءة والوعي “فما الذي يجعلهم يفنون حياتهم في خدمة الأرض على الرغم من عقم رحمها وظلم ملاكيها واستغلالهم وكونهم يستطيعون أن يعيشوا عيشة أفضل مما هم عليه بأقل من ربع جهدهم المبذول في خدمة أرض الإقطاعيين والشيوخ وإذلالهم، لو أنهم امتهنوا الصيد وتربية الحيوانات، وترك استنكافيتهم من بيع ما يصطادونه ويزرعونه في السوق”ص36
على الرغم من ان الزمن هو المادة الوحيدة التي لا يستطيع الروائي أن يخلقها ، وهي قد تمثل المادة الاولية الخام للرواية، لكن الروائي يستطيع ان يتلاعب بها، يقدم ويؤخر، من اجل الاستخدام الافضل والاكثر تشويقا لشخصيات الرواية، المرحلة الزمنية في الجزء الاول من الثلاثية هي فترة العهد الملكي (خمسينيات القرن الماضي) حيث شخصية (مظلوم ) لكن الروائي يجعل الابن الوحيد لمظلوم (مطشر) او – كفاح- الذي كان طفلا هو من يكون في الأستهلال الرواية لأنها شخصية اشكالية، فهو يجعله قد خرج توا من المعتقل ، شكله غريب وعقله متشوش، قضى في السجن الانفرادي عشرات السنين، تعرض لأبشع انواع التعذيب، وخسر حبيبته وزوجته (احلام) حيث هي الاخرى تم اعتقالها واغتصابها وتصفيتها بالمعتقل، هنا قدرة وبراعة في عرض الزمن الممتد من العهد الملكي الى الاحتلال الامريكي ، حيث تزدحم في عقله غير المتوازن كم هائل من التساؤلات “فارع القامة، تبدو عليه علامات الهيبة، رغم ملابسه الممزقة، شعره الأبيض يجلل كتفيه، شعر لحيته يغطي صدره..يسير حافي القدمين، تبدور أظفاره ليديه ورجليه كأنها ملاعق أصابها الصدأ، يسير دون هدى لا يعرف إلى أين يذهب”ص7 ، هنا تحرير السردية من التسلسل الزمني ، ليضع الروائي الزمن خارج التاريخ ولا يقر بإن التاريخ يعني (التسلسل الزمني) هو استاذ وشاعر معروف وحبيبته استاذة النقد الادبي (احلام) يتراجع الزمن ليستذكر اول لقاء بينهما”لدي شغف كبير وإعجاب لا استطيع أن أورايه تحت ستار الموضوعية وحيادية الناقد، لنصوص الشاعر المبدع المجدد كفاح” هذا الذي استطاع أن يهبنا أكثر النصوص جمالية وسحرا”ص11 هذا حديث احلام الى كفاح وهي لا تعرف شكله وتتنمى لقاءه.يتكسر الزمن ليكون كفاح بائع على عربانة اللبلبي كما كان مظلوم والده!!!
بعد ان نعجب ونتعلق بشخصية (كفاح) وكنا ننتظر اللقاء المرتقب بينهما ليتعارفا بشكل شفاف وواضح، ينقلنا السارد الى زمن الاقطاع وحياة الاب (مظلوم) الى النجف، والبحث عن العمل ، الذي لا يكون الا بائع يتجول بالعربانة اللبلبي والباقلاء، تلك العربانة التي تكون سببا ليتعرف على الحركة الشيوعية في النجف من خلال علاقته بشخصية الاستاذ (منير) ، ويجرب الجنس خارج نطاق الزوجية من الغجرية (غنودة) “خش داده خش البيت بيتك..قالت ذلك وهي تكاد تلتهمه بعينيها الكحيلتين الواسعتين.. قوامه الممشوق(مرصوص) وهو يفيض فحولة وحيوية وقوة ووسامته الباهرة..طأطأ رأسه غاضا بصره وهو يرى فتاة كحور العين، شبه عارية لا يلف جسمها سوى رداء خفيف “أتك” من البر لون الاحمر قصيرا كان شفافا ساقيها البضان البيضاوان كبياض حليب النوق ومبرزا مكوراتها الأمامية والخلفية الرجراجة بما يحلم بمثله “مظلوم” طوال حياته”ص96
استخدم الروائي مستويات متعددة يوحد فيها المؤلف بين الواقعي (التوثيق) والخيالي الفني ، وبين الجمال الابداعي الفني يتم السارد زج الاحداث السياسية – من دون اقحام- التي حصلت في فترة الخمسينيات من تاريخ العراق، ولا يخفي الروائي انحيازه الى اليسار الشيوعي ودوره في النضال ضد الاستعمار وضد الظلم والاستغلال، الرواية تنبع من جوهر العقيدة الواحدة لذلك الصراع فيها بين الشخصيات لا ينشأ الا بأسباب سياسية فقط !وحينما يكون خارج هذا الاطار فهو خطأ في تشخيص العدو كما يعتقد استاذ (منير ) يتعجب عندما يحدث شجار بين مظلوم ومجموعة من لاعبي القمار”هذوله يطب واحدهم للسجن مظلوم يطلع ظالم، يطلع ضيمه وحيفه من اهله ويعوف من ظلمه، صدق من وصفهم ب((حثالة البرولتاريا))ص108 ، في الجزء الاول من الثلاثية فضلا عن الشخصيات الرئيسة (مظلوم ومطشر او كفاح ومنير، فإن شخصية النجار وابو ماهر له دور في زرع الوعي السياسي لدى مطشر الذي قد قام بتغيير اسمه رسميا الى كفاح.
تكون نهاية الروايات ذات الاجزاء مفتوحة لغرض التشويق وضمان متابعة الاحداث والشخصيات في الاجزاء الاخرى من العمل (الثلاثية) لذلك تبقى ملامح الشخصيات ليست نهائية وقابلة للتغير والتطوير خاصة اذا ارتبطت الاعمال الروائية بالاحداث التاريخية الواقعية وكان هناك نسق تسجيلي وتوثيقي في الخطاب الروائي وهذا ما هو موجود في ثلاثية رواية محطات.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية