حمزة عبود شاعر بانتظار «اللا أحد»
محمد علي شمس الدين
كنّا في كلية الآداب، في سبعينات القرن الفائت، جماعة لغة وتراث. العميد أحمد مكي والشيخ صبحي الصالح وسواهما، يسعون نحو ترسيخ حسّ تراثي ولغوي في درس الأدب العربي. ينعكس ذلك في مهرجان الشعر السنوي الذي يُقام في قاعة الكلية، حيث تتجه دفّة الطلاب الشعراء نحو بحر موزون وينابيع شعرية عريقة تتدافع فيها الأوزان، ابتداءً من امرئ القيس وطرفة مروراً بالطائيين والمعري والمتنبي وصولاً الى أحمد شوقي وبدوي الجبل والأخطل الصغير.
كان الخط الشعري في كلية الآداب خليلياً منضبطاً محافظاً ولم يتأثر كثيراً بمغامرات الحداثة الشعرية التي حضنتها كلية التربية القريبة في المكان من كلية الآداب (في محيط منطقة الأونيسكو في بيروت). كانت جماعة كلية التربية جماعة حداثة في درس الأدب العربي. وكان أدونيس وخليل حاوي يشرفان على توجيه دفة هذا الدرس نحو المغامرة الشعرية للطلاب الشعراء.
يتجلى ذلك في مهرجان الشعر السنوي لطلاب كلية التربية، حيث ظهرت أسماء كثير من الشعراء الشباب. ومرّة قال محمد العبدالله قصيدته المشهورة في بيروت: «أي شيء شد يا بيروت رجلي إلى ظهري… «، وينهيها بصرخته الجارحة «لست أمي، إنما أنت خياناتي لأمي»…
في هذا المناخ نشأ الشاعر حمزة عبود، ولم تكن كلية التربية وحدها منبر هؤلاء الطلاب الشعراء، بل فتح لهم أدونيس صفحات مجلة «مواقف» وأنسي الحاج صفحات ملحق «النهار»، بعد توقف مجلة «شعر». وما زلت أذكر المطلع الجميل لقصيدة حمزة عبود المنشورة في أحد أعداد «مواقف»: «اجعليني أباً لك في زمن الخوف والحروب الطويلة…».
ذلك لا يعني أن مياه الحداثة الشعرية لم تختلط بين هاتين الضفتين وأن شعراء آخرين ذهبوا الى مكان آخر في مجلة «الآداب» التي فتحت لهم صفحاتها، وأن مجلة «مواقف» استقطبت أسماء من خارج كلية التربية، وأن ثمة من تعثر وثمة من تابع وثمة من سكت من الشعراء، لكنه على كل حال كان زمناً شاباً وحيوياً للشعر في لبنان.
مرثية للوقت
لا يعد حمزة عبود من الشعراء الغزيري الإنتاج على امتداد نصف قرن تقريباً من مسيرته الشعرية. ولعله مرّ في فترات طويلة من الصمت. فما بين ديوانه الأول «أبدأ من رقم يمشي» (1978) وديوانه الراهن «حدث يحدث دائماً» (دار غوايات، 2017)، ثمة نحو أربعين عاماً حصيلتها الشعرية ستّ مجموعات شعرية صغيرة الحجم، ورواية واحدة، ومجموعة قصص وسيرة ذاتية ومختارات من شعر الديوان العربي المعاصر، وأخرى من الشعر العامي. ولو جُمعت أعماله الشعرية لشكلّت ديواناً متوسط الحجم، فهو ميّال للاختزال، بل للصمت والنسيان، وهو ما يسميه «صمت النسيان» في آخر صفحة من ديوانه الجديد. في نصوص هذا الديوان ثمة حس دفين بالوقت ومناخ نفسي يهب الشعور بالفوات. حزن غير صارخ، أو ربما صارخ في الداخل فقط، كصوت مكتوم في الحنجرة. إنه الوقت مفتت الأيام والحوادث والأشــخاص والأعمار، وبالإمكان اعتبار العنوان «حدث يحدث دائماً» فعلاً واحداً يدل على استمرار الماضي في الحاضر والمستقبل.
هذه السيرة الذاتية المكتوبة بشذرات شعرية، لا يتسنى لها الإسهاب، فإذا أسهب الشاعر في ذكر بعض التفاصيل والمراحل من حياته، فإنه يقع في سرد إخباري كما في قصيدتي: «لا شيء لا أحد تقريباً»، و «أعود لأرى»، التي كتبها بنفس سردي يكاد يكون محايداً. «وكأنني ما زلت على شاطئ الإسكندرية أسير على غير هداية وأرسم خرائط مدن وأسفار على صفحة الماء وأفتش عن آمال بين السائحات وأدلف إلى الكازينو القريب لأتذكر وجوهاً وحوادث لم أرها من قبل ولأنتظر إيلي بلا موعد لنخطط لعشاء في «على كيفك» (اسم مطعم ومقهى)، وأتداعى على شرفة الكازينو مترنماً بمقطع أغنية لعبد الحليم» (ص 62).
إنه هنا سرد عادي بل نثري لمراحل حياة الشاعر من ولادته في قريته «عدلون» وحياته ردحاً من الزمن بين صور وصيدا وانتقاله الى الإسكندرية وتذكره باحة كلية التربية في بيروت وانتقاله مع عائلته في البحر إلى قبرص، ومن ثم ذهابه إلى باريس. هي صفحات من السرد النثري لسيرة ينهيها بالقول «وكأنني أمام بيتنا القديم في القرية أعود لأرى وأفتش في فضاء موحش في ركام تلك الصور والأسماء».
هذا النص السردي يستعاد في قصيدة «لا شيء لا أحد» حيث يسترجع محطات الحياة نفسها تقريباً (بأسماء الأماكن: القرية، صور، الإسكندرية، الكلية، الإبحار) وتنتهي بجملة «كأنني أتذكر شيئاً آخر». لكنّ صيغة النفي تغلب على النص من أوله حتى آخره «لا ولن/ لا شيء/ لا أحد/ لا وليس/ لا يرون ولا يسمعون». صيغة النفي هذه تسيطر على كل نصوص الديوان، ففي قصيدة صغيرة بعنوان «هو الخريف» يبدأ الشاعر بالنفي قائلاً: «ليست نسائم الخريف/ ولا الأمواج/ ولا الأشجار…»، لتنتهي بالتردّد والمحو. وفي نص آخر من خمسة أسطر وعنوانه «اختفاء» يبدأ بـ «لا» وينتهي بـ «لن»، يليه نص حول الصمت… وكيفما أدرت نظرك في النصوص والسطور ستعثر على هذا النفي: «لم أكن أقصد أحداً… لا أرى…. لا ينتظر أحداً ….». هذا يجعلنا نقترح تعديلاً طفيفاً في العنوان وهو «حدث لم يحدث دائماً»، ذلك أن روح النفي والصمت هي روح هذا الديوان، وهو ما أثر في الصيغة بلا ريب، حيث يقول: «إنها المرة الأولى حين أطل جسدك عارياً فرأيت كمن لا يرى كل شيء…» (قصيدة «في المرة الأولى»). لقد انكشف للشاعر كل شيء ببرق خاطف، ثم ما لبث أن سقط في ظلمة دامسة. لذا يكتب حمزة عبود كمن يتذكر ويتذكر كمن ينسى. وعلاقته بسيرته وسيرة الأشياء من حوله علاقة رثاء خافت. يظهر كأن الزمن دائماً هو فوات واحتضار، لكنّ الزمن، كما قال هيرقليطس، دائماً طفل.
والشاعر لا يستعمل عبارة الزمن في نصوصه بل «الوقت»: «الوقت الذي يمضي ولا نجد له أثراً لا يزال يتربص بنا» (ص 13)، ومن ثم يتحول إلى «انتظار اللاأحد على شرفة المساء» وإلى «تعليق الوقت على غصن شجرة» (ص 16)، وإلى أن الحياة برمتها ليست أكثر من استطراد ضد النسيان، لكنه استطراد مشكوك فيه (قصيدة «حدث يحدث دائماً» إلى موسى وهبة)، ما يحتم صيغة كتابة أقلوية، تأتي كأنها استدراك على الكتابة أو هامش على النص.
كتابة حمزة عبود أبعد ما تكون عن الإثبات، هي كتابة ظنية تكثر فيها صيغ النفي، بل لعلها كتابة الندم على الكتابة. فالقول ريبة، والكلام شرك، ومن طلب البيان خسر.
صحيفة الحياة اللندنية