حول النحافة والسمنة القصصية
لدى الحديث عن حجم القصة بأنواعها، بين حدي القصة القصيرة جدًا، والناجزة بسطر أو كلمات قليلة، وبين – أو ما أطلق عليه الناقد السوداني “أمين تاج السر” – مسمي “السمنة الروائية”، برواية مئوية الصفحات، يثار السؤال: متي يكون ضروريًا الإطالة في القصة؟
والحقيقة أن الحاكم الرئيس في هذا الشأن هو التجربة الأدبية، بمعني أن المغزى الساكن في فؤاد القاص والذي يدفعه للكتابة، والذي يختمر في روحه، وقد يبدو بصورة غير نهائية غالبًا، هو الذي يملي ذاته، أو فيما يقال عنه “القصة تكتب نفسها”، وهذا له ارتباط وثيق بلحظة الإضاءة الإبداعية.
ولتقريب الأمر نسوق مثال: أغلب روايات همنجواي بدأ الكتابة فيها علي أساس أنها قصة قصيرة، فامتدت معه واستغرق فيها حتى أصبحت رواياته المعروفة، والروائي “محمد جبريل” يحكي مثل هذا يقول: “بدأت روايتي من أوراق أبي الطيب المتنبي باعتبارها قصة قصيرة، لكن اتساع القراءة في الفترة التاريخية وسع ذلك من بانورامية الصورة التي يجدر بي تناولها، فتضاعفت الصفحات القليلة – كما كنت أعد نفسي – إلي ما يزيد عن المائة والخمسين صفحة”، وهنا ملمح عن أهمية مطالعة القاص حول موضوع قصته.
إذن الفكرة تقود نفسها والقاص متابع لها، يستدعي تجليات لحظة الإبداع حال حضورها، البعض يكتب بسرعة جدا دون تروي أو تصحيح لمفردة حتي يستفيد من تلك اللحظة كما يقول محمد جبريل أيضا “تقديم الخبز طازجًا ساخنًا” وإلا إذا لم يستثمر لحظته تلك تحول إلى طعام بارد، مع مراعاة أن هناك أساليب أخرى مثل “علي أحمد باكثير” الذي كان يكتب بأقلام رديئة وخشنة حتى يوقف من انسيال الفكرة وتدفقها في خاطره على أوراقه دون قيامه بالتدقيق الكامل في أنحائها، وكان يقضي الساعات ليحرر كلمة أو عبارة واحدة، لكن باكثير كان صاحب موهبة خصبة يصل الليل بالنهار في القراءة والكتابة.
الجزئية الثانية أن القصة ليس لها قواعد ثابتة مستقرة، ولكن هناك على الأقل ملامح أو أمور نرضي بها إلى حين، منها ما قاله الروائي “إبراهيم عبد المجيد”: “إن القصة إذا امتد زمنها تحدد مكانها والعكس صحيح”، لأنها تعبر عن لحظة اشتعال أو لحظة معبرة حاسمة انتقالية أو لافتة أو مأزومة، إنها موجة واحدة أو قطرة واحدة من البحر، لكنها تحمل جميع خصائص البحر، أما الرواية فتعتني بالتحليل والرسم والإيهام بالواقع من خلال التفاصيل، وتقديم كنوز نفسية وفكرية في ثوب سردي روائي، حاجة الفكرة ذاتها إلى الإشباع هو الحاكم في هذا الشأن، ماذا أريد من الكتابة يؤثر بالطبع، فإذا جلست للكتابة وهزمت رهبة السطر الأول وانطلق جواد السرد فهو يعرف متى وأين يقف وما المساحة المناسبة له للوصول إلى مقصده.
يبقي أمر أخير هل يمكن تحويل القصة القصيرة إلى رواية والعكس، ليس هناك قاعدة محددة – طبعًا – لكن ما عرفته أن هناك صعوبة بالغة لتقديم رواية في صورة قصة قصيرة، كما قال د. عبدالمنعم تليمه إنه لا يوجد أردأ من قصة قصيرة هي في حقيقتها رواية ملخصة، وما فعله يوسف الشاروني لتقديم رواية “اللص والكلاب” لأمير القصة نجيب محفوظ أنه التقط شخصية واحدة أو أكثر – مثل زيطة صانع العاهات – وقدمها في شكل قصص قصيرة علي باب نقده للرواية، وكان اسلوبًا مبتكرًا لكنه التزم روح القصة القصيرة، وما عرفته أيضًا أنه يمكن تحويل قصة قصيرة إلى رواية، يفعلها بعض كتاب قصص الخيال العلمي، ربما لأن التفاصيل متاحة بوفرة في عالم غرائبي جديد هو عالم الفكرة الخيالية العلمية (مثال: حديث عن المستقبل غيراىل معلوم) والتي قد تحتاج إلي إشباع جديد.
ميدل ايست أونلاين