في مخيم عين الحلوة، اللعبة ليست افتراضية، واقعية جداً وواقعة، أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى، وإلى نازحين خارج المخيم. في ليل 30 تموز الماضي، اندلعت الجولة الأولى من الاشتباكات على خلفية اغتيال شخص من آل فرهود، واحتدمت في اليوم الثاني ظهراً بعد اغتيال قائد الأمن الوطني أبو أشرف العرموشي ورفاقه، امتدت الاشتباكات على مدار خمسة أيام، لتطاول عدة محاور كالبركسات والطوارئ والصفصاف وجبل الحليب وحطين، حيث استُخدمت جميع أنواع الأسلحة.
وُصفت المعركة بأنها بين حركة فتح وما يسمى «الشباب المسلم»، وسريعاً اجتمعت الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية لتطويق التصعيد العسكري، فتم الاتفاق على وقف إطلاق النار مبدئياً، تمهيداً لتسليم المطلوبين، بعد أن تنهي لجنة التحقيق التي تشكّلت من هيئة العمل الفلسطيني المشتركة. ولما أنهت هذه اللجنة مهمتها وقدّمت تقريرها، الذي سمّى عدداً من الضالعين في الاغتيالات، جرت محاولات لتسليم هؤلاء للدولة اللبنانية، وإنهاء الشر الذي يحدث الآن، إلا أن الشر تغلّب.
خلال كل هذا الوقت، كانت أعداد المهجّرين من المخيم تعود إلى بيوتها للملمة ما أمكن من أغراضها للخروج مجدّداً من المخيم، فالحياة مع القلق كالحياة تحت القصف والنار. بعضهم بقي في منزله وإن تضررت أجزاء منه، فهؤلاء لا سبيل لديهم ولا قدرة على الاستئجار خارج المخيم في صيدا أو المناطق المجاورة للمخيم كسيروب والفوار والنبعة.
لم يعد المخيم هو المخيم، فهو أصبح مدينة أشباح فيها قتال عنيف، وفيها دمار شبه شامل للممتلكات، حتى سوق الخضر وهي الشريان الاقتصادي للمخيم، لم تعد تصدح فيها أصوات الباعة والزبائن الذين كانوا يأتونها من خارج المخيم كما من داخله. شُلّت الحياة في المخيم، وها هو القتال يعود، ومع اشتداده أيضاً، انشلت حياة مدينة صيدا، ولا سيما بعد أن سقطت قذيفة قرب تجمع للجيش اللبناني أدّت إلى إصابة 5 عناصر، إضافة إلى وصول الرصاص الطائش إلى «السراي الحكومي».
الاحتلال الصهيوني هو الذي سيحصّل نتائج هذه المعركة في النهاية، وبغضّ النظر عن شكل النهاية، فإن المخيم الذي أذاقه الويلات يوماً يقتل نفسه اليوم.
تلك المعركة التي تدور على الأرض، تلحقها معركة أخرى، افتراضية غير تلك الأولى، تدور رحاها في مواقع التواصل الاجتماعي، مصطلحات وجمل وكلمات ينمّ بعضها عن عنصرية صرفة، وعن تفريط في القضية، ولا سيما أن «إسرائيل» المحتلة لفلسطين فعلت ما فعلته في لبنان في مراحل مختلفة. ومن تلك العبارات «قرفتونا بقضيتكم» و«خذوا قذائفكم إلى فلسطين» و«بعد ناقص تقاسمونا» و«يجب تدمير المخيم الإرهابي» و «طريق القدس ليس من صيدا ولا من لبنان»، وفي مثل هذه الأجواء تأتي الردود في الغالب على ذات الشاكلة من الفلسطينيين والمؤيدين لهم. وتكون هذه حرباً موازية.
وفي هذه الجولة من المعركة، جاءت خطوة الصليب الأحمر اللبناني، حين نصب خياماً قرب الملعب البلدي في مدينة صيدا، لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ قوبلت برفض فلسطيني فصائلي وشعبي، رغم أنها تندرج تحت حُسن النوايا. ذكّرت هذه الخطوة بالنكبة والتهجير، حيث أقام الفلسطينيون في بداية لجوئهم في خيام مماثلة، وبعد أن كانت وكالة «الأونروا» رافضة لفتح المدارس، سارعت وفتحت مدرسة نابلس ومركز سبلين لإيواء النازحين وتأمين احتياجاتهم الأساسية.
خطوة الصليب الأحمر فتحت شهية المحلّلين… منهم مَن قال إن نصب الخيام يشكل خطراً أمنياً، والبعض تحدّث أن المكان لا يحميهم من الرصاص الطائش، وهناك من سرح في خياله فافترض إقامة تجمع فلسطيني جديد، وبين هذا وذاك يبقى السؤال، هل كانت النية مغايرة من حيث سرعة التجهيز والتمويل؟ أم سوء تقدير في عملية التخطيط والتنفيذ، ولماذا لم تحصل خطوة مماثلة في جولة المعركة الأولى؟
وعادت الاشتباكات
نعود إلى سبب عودة الاشتباكات، وهو عدم تطبيق ما جرى التوصل إليه من بنود في اتفاق وقف إطلاق النار، وعلى رأسه تسليم المطلوبين. فعدنا إلى نقطة الصفر، وصبّ الزيت على النار، واندلعت المعركة مجدداً بين الأطراف ذاتها، وهذه المرة عند التعمير وحي الطوارئ والبركسات والرأس الأحمر وحطين والصفصاف، أي المخيم اشتعل في معظم محاوره.
أيام عدة قبل اندلاع المعركة الجديدة، كنا نتابع الاستفزازات اليومية، والاتهامات المتبادلة بين الطرفين. وبعيداً عن سوء النوايا والسيناريوهات الكثيرة المحتملة لما يحدث في المخيم، هناك سؤال لا بد منه، لماذا اليوم وفي هذا التوقيت الإقليمي واللبناني الحرج يحدث كل هذا؟ ومع التحليلات ومن دونها، ثمة حقيقة واحدة، أن المخيم يُدمر، وأن أهله ينزحون عنه، وأن بعضهم لن يعود إليه، وأن الاحتلال الصهيوني هو الذي سيحصّل نتائج هذه المعركة في النهاية، وبغضّ النظر عن شكل النهاية، فإن المخيم الذي أذاقه الويلات يوماً يقتل نفسه اليوم.
صحيفة الأخبار اللبنانية