خدمات «أونروا» تتآكل: «مجزرة» صحية تتهدّد المخيمات

قبل أيام، أطلقت مديرة عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (أونروا)، دوروثي كلاوس، ما يشبه «النفير العام».
فقد حذّرت بوضوح من أن أوضاع الوكالة باتت «غير مستقرة جداً»، وأنها إن لم تحصل على كامل المساهمات المتعهَّد بها وفي مواعيدها، فلن تتمكن من مواصلة عملياتها خلال الشهر الجاري والمقبل. تحذير كلاوس كان كافياً لإشاعة موجة غضب وقلق في المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث يخشى اللاجئون أن تلتهم «الفجوة المالية» ما تبقّى من الخدمات التي ما تزال الوكالة تقدّمها.
هكذا يعيش الفلسطينيون منذ سنوات على وقع بيانات «أونروا»: يهدأ القلق حين تستقر أوضاعها وتتأمّن خدماتها، ويتجدّد كلما أطلقت الوكالة نداء استغاثة. حتى غدت حياتهم اليومية مرتبطة بما تعلنه «أونروا» التي تسير تصريحاتها في منحى متدهور يوماً بعد يوم. وهو ما تعكسه بوضوح التقارير الميدانية عن حياة اللاجئين، وآخرها تقرير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) الصادر في حزيران الماضي بعنوان «واقع المخيمات الفلسطينية في لبنان»، والذي شمل 12 مخيماً أساسياً.
ويشير التقرير بوضوح إلى أن حياة اللاجئين الفلسطينيين لم تشهد أي تغيير على مستوى الشقاء المستمر منذ النكبة. فالمشهد هو ذاته: مساحات ضيقة تزداد مبانيها طولًا وهشاشة، وأوضاع معيشية واجتماعية غارقة تحت خط الفقر. إذ أظهر آخر المسوحات الاجتماعية والاقتصادية التي أجرتها «أونروا» أن نسبتي الفقر والبطالة في المخيمات لامستا 80%. وهي نسبة صادمة لم تأتِ من فراغ، بل نتيجة الانحدار المتواصل في خدمات الوكالة، سواء الطارئة منها أو المستدامة.
ويُستدلّ على هذا الانحدار من تقليص الأونروا مساعداتها النقدية أخيرًا، إذ خُفِّضت بنسبة 40% من 50 دولارًا للفرد إلى 30 دولارًا فقط، بينما استُبدلت العشرون المتبقية بحصة غذائية تُعطى للعائلة مجتمعة، لا لكل فرد، بواقع حصتين للأسرة دون الخمسة أفراد وثلاث حصص للعائلات الأكبر. وبرّرت الوكالة هذا التراجع بتحول المانحين الرئيسيين من تمويل النقد إلى الغذاء، «باعتبار النقد قابلاً للاستخدام في أغراض غير مرغوب فيها».
ووثّق تقرير «شاهد» وقف «أونروا» عدداً من برامج الطوارئ في المخيمات، منها تقليص بدلات الإيجار للعائلات المستأجرة في مخيم نهر البارد، والتي لم يعد إعمار بيوتها، من 250 دولاراً إلى 75 دولاراً فقط، مع شطب عدد من العائلات من لوائح المستفيدين، فضلاً عن حرمان مئات العائلات الأخرى من التقديمات الاجتماعية وحصرها بالمصنَّفين في خانة «العسر الشديد». وامتدت عدوى التخفيضات إلى باقي المخيمات، كلٌّ بحسب مستوى استفادته من برامج الوكالة.
«تخفيضات» على الصحة
صحيح أن اللاجئين اعتادوا على تقبّل تخفيضات «أونروا»، إلا أن ما يصعب ابتلاعه هو تمدّد هذه الإجراءات لتطال القطاع الصحي، تحت ذريعة «نقص التمويل»، بما يهدد أمنهم الصحي الجماعي. فبحسب التقرير، تتجه الوكالة إلى مزيد من التقليص في الرعاية الصحية لسببين رئيسيين: أولهما انخفاض قيمة السقوف المالية أو التغطية الاستشفائية للاجئين، وثانيهما النقص المتزايد في الكوادر الطبية من أطباء وممرضين، ونقص الأدوية، ما يهدّد خصوصاً مرضى الأمراض المستعصية والمزمنة.
ورغم أن ملامح هذا التراجع بدأت منذ سنوات وتفاقمت مع الأزمة المالية عام 2019، فإنها منذ 2023 دخلت مساراً شديد الانحدار مع توقف المساعدات النقدية من الدول الكبرى لأسباب سياسية، في مقدمتها وقف الدعم الأميركي الذي كان يشكّل نحو 30% من موازنة «أونروا»، إلى جانب تقشف دول أخرى للسبب نفسه.
… والوكالة تنفي
وفيما يأخذ مرضى السرطان خصوصاً على الوكالة تقليص سقف الاستشفاء لعلاج يحتاج إلى آلاف الدولارات، أكّدت الوكالة لـ «الأخبار» أن «لا تخفيضات في سقف التغطية الذي يبلغ حالياً 16 ألف دولار لكل مريض بعدما كان 8 آلاف عام 2024»، مشيرة إلى أنها «غطت استثنائيًا العام الماضي بعض الحالات بما يفوق هذا السقف».
وأكدت أن مساهماتها في خدمات الرعاية والاستشفاء «لم يطرأ عليها أي تغيير»، مشددة في الوقت نفسه على أنها «توفّر الرعاية الصحية الأولية مجانًا عبر 26 مركزاً صحياً تقدّم خدمات عامة وتخصصية وأدوية أساسية وخدمات أخرى، إضافة إلى الاستشفاء المدعوم وفقاً لنظام تقاسم التكاليف بينها وبين اللاجئين في 32 مستشفى».
لكن، رغم التطمينات بعدم تغيّر الخدمات، لا يلمس المرضى أي انعكاس لهذه الوعود. فمريض السرطان بات محكوماً بسقف التغطية المحدّد، وما يتجاوزه عليه أن يدفعه من جيبه، وهو عبء يستحيل تحمّله في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة. وإلى ذلك، خُفّضت نسبة تغطية فواتير الأدوية من 75% إلى 50%، ما يعني تحميل المرضى نصف الكلفة تحت مسمّى «مساهمة المريض – patient share»، وهو مصطلح بات يرافق كل خدمة تقريباً.
والمشكلة لا تتوقف هنا؛ فالنقص الحاد في الأدوية التي توفرها «أونروا» يدفع المرضى إلى شرائها مباشرةً من الصيدليات، من دون أن يكون بإمكانهم استرجاع ثمنها. إذ لا تعترف الوكالة بهذه الفواتير لكونها خارج آلياتها المعتمدة. كما إنها تعتمد لوائح الأدوية الصادرة عن وزارة الصحة، بما يتسبّب في فقدان أدوية أساسية، بينها أدوية سرطانية. يُضاف إلى ذلك أنّ الأطباء قد يصفون أدوية غير مدرجة على تلك اللوائح، فتغطّي الأونروا 20% من كلفتها فقط بعد دراسة الملف، فيما يتحمّل المريض 80% من فاتورة علاج تبلغ آلاف الدولارات سنوياً. وينسحب هذا التراجع على علاجات الأمراض المزمنة وسائر الأمراض التي تحتاج إلى أدوية دائمة، يشكو المرضى من فقدانها. أما ما يتوافر في مراكز الرعاية والعيادات التابعة للوكالة فغالباً ما يقتصر على «أدوية خفيفة ومسكّنات».
ولعلّ الأسوأ في مسار التراجع هو التخفيضات التي تطال العمليات الجراحية. إذ باتت تُصنّف إلى مستويين: الأول يشمل العمليات الصعبة والمعقّدة كجراحات القلب المفتوح، والثاني يتعلق بالعمليات العادية مثل استئصال الزائدة الدودية أو المرارة. في كلا المستويين، خُفّضت نسبة التغطية إلى 60% فقط، بعدما كانت تلامس سابقاً 80% و90% في العمليات المعقّدة.
كذلك يواجه المرضى إشكالية التعامل مع المستشفيات المتعاقدة مع الأونروا. فمع محدودية الخدمات في المستشفيات الحكومية، تضطر الوكالة إلى التعاقد مع مستشفيات خاصة، وهذه الأخيرة تتعامل مع المرضى «بالقطعة»، ما يضاعف كلفة الفواتير. والأدهى أن خدمات الطوارئ مستثناة من تغطية الأونروا كلياً، ما يُجبر المريض على دفعها مسبقاً كما لو كان مريضاً عادياً بلا أي دعم.
الدمج آخر «إصدارات» الوكالة
لم تتوقف سلسلة التخفيضات عند ما بدأته «أونروا» خلال الحرب كإجراء احترازي، حين لجأت إلى دمج العيادات، كما حصل في النبطية حيث جُمعت العيادات في مركز واحد بسبب الظروف الأمنية. ما كان يُفترض أن يكون تدبيراً مؤقتاً، تحوّل اليوم إلى سياسة دائمة تدخل في خانة «التشحيل».
فإلى جانب تقليص ساعات الدوام في بعض المراكز، تؤكد المصادر أن الوكالة تتجه نحو تكريس الدمج كأمر واقع، بحيث تُجمع العيادات النقالة (mobile clinic) المنتشرة في التجمعات الصغيرة – كالبقاع والنبطية وتجمعات الساحل – في عيادة مركزية واحدة لكل منطقة. وبهذا تُخفّض الوكالة كلفة الإيجارات، كما تقلّص ساعات العمل: فبدلاً من يومين أو يوم ونصف في كل تجمع، تصبح الخدمة محصورة بيوم أو يومين في المركز الرئيسي فقط.
النتيجة المباشرة لهذا الإجراء هي زيادة الأعباء على المرضى، سواء لجهة الكلفة أو لجهة صعوبة المتابعة الطبية، ما يؤدي إلى ترحيل كثير من الحالات إلى مواعيد لاحقة. أما على مستوى الكادر الطبي، فيطال التقشف الأطباء أنفسهم، وبخاصة أطباء الاختصاص.
ففي إحدى المناطق مثلاً، كان هناك طبيب قلب يتنقّل بين العيادات بمعدل يومين أسبوعياً لكل مركز، أما اليوم فقد خُصّص طبيب واحد فقط ليغطي المنطقة كلها، بمعدل يوم واحد في الأسبوع. وبالحصر المناطقي، انخفض عدد أطباء القلب من 4 أو 5 إلى طبيبين اثنين، والأمر نفسه انسحب على أطباء العيون وغيرهم. ولم يقتصر الأمر على خفض الأعداد، بل وصل إلى إلغاء التعاقد مع بعض الاختصاصات نهائياً، مثل أطباء الغدّة… والحبل على الجرار.
صحيفة الاخبار اللبنانية