خطاب التصدع للحفيدة الأميركية
كأن إنعام كجه جي قد اختارت في رواية “الحفيدة الأمريكية” الصادرة عن دار الجديد / بيروت، تحاول ترميم الذاكرة وإعطاءها قدرا من التماسك بدلاً من تجاوزها نحو إطار الهيمنة الأوسع، الذي يمثل موضوع التمزق الهوياتي في حد ذاته.
الاستعارات المتلاحقة مثلاً التي تتطور داخل عدة مناطق نحو شعرية مترصدة ـ تميل إلى الإسراف أحياناً ـ بدت كأنها قصد لاشعوري لإنكار الورطة الأخلاقية عند (زينة) الطفلة العراقية التي أصبحت مترجمة لجيش الاحتلال الأميركي، إن تحوّل اللجوء للتشبيهات إلى هاجس بديهي كان بمثابة حماية رومانسية من مأزق الحنين، وكذلك من الاضطراب النفسي أمام حتمية المنطق الحاضر، الذي يفرض التقدم للأمام التزاماً بواقع ينبغي أن يصل إلى حقيقته المروضة، النجاة من المشاكل المادية للأسرة والأزمات المتعددة الناتجة عنها.
من هنا تجلت اللغة في بعض الأوقات كشأن مستقل يخطو خارج بنية الصراع الأساسي الأمر الذي جعلها طريقة لتنظيم عالم مفتت وراء غطاء من سرد يبحث عن شكله المثالي.
أتصور أن هذا الانحياز لـ إنعام كجه جي هو ما جعل “الحفيدة الأمريكية” بالنسبة لي أقرب إلى حكاية صحفية ممتعة، قادرة ـ باقتدار ـ على إشباع الرغبة في تسلية آمنة، مضمونة التأثير العابر، الذي لا يهدد الرتابة.
إن السعي لترتيب الشظايا المتنافرة أو خلق صيغة للتعايش بين الانتماءات المتناثرة أبقى جسد زينة عالقاً بين الكليشيهات: (الوطن الأصلي .. سقوط الطاغية .. الديمقراطية .. الاحتلال .. الوطن الثاني) الأمر الذي وفّر للرواية كل ما تحتاجه كي تصبح أقرب إلى تقرير تليفزيوني متخم بالعواطف المتوقعة، والاستنادات والدعائم التاريخية المحفوظة.
لا يتوقف تأثير الكليشيهات عند قراءة ما سبق قراءته، أو معرفة ما هو معروف، أو الاستماع لصرخات قادمة من ألم تقليدي، بل إنها أيضاً تقدم مساهمتها في ترسيخ العماء اليوتوبي الذي يحكم رؤية الماضي.
يمكن ـ مثلاً ـ لأي معلومة منتزعة من ركام لا أول له ولا آخر عن علاقة صدام حسين بأميركا أن تفسد كل المعطيات الوردية عن المجد البطولي العسكري، التي كانت تمر أحياناً كأحلام يقظة داخل الرواية.
إذن ليس جنوناً بالتأكيد أن تنجب بزة العقيد العراقي سترة ضد الرصاص صُنعت في أميركا، وتلك إجابة للتساؤل الاستنكاري الذي عبر في ذهن “الحفيدة الأمريكية”، وهي إجابة ربما لا أحد يحتاجها سوى إنعام كجه جي.
لكن أمنية الاختباء من التشتت هي التي تتولي قيادة الموقف، وهي التي جعلت الكاتبة تتفادى مجادلة فكرة “الهوية” كمطلق، دفعتها لأن تتحاشى اللعب بالمفاهيم السائدة للطغيان، محاكمة الجذور.
إنها طوال الوقت تبحث عن أرض صلبة، دون جرأة لاكتشاف ما وراء دمارها في شموليته. في خرابه العام الأبعد من مجرد الولاء لوطن ما. هي استبدلت هذا التحالف مع الطيش ببلاغة الحنين العراقي، وذكاء المجاز الذي تقوم عليه مفارقات (السيت كوم) الأميركية.
عثرت إنعام كجه جي على هوية رمزية تخلط بين كنايات البؤس المزدهر في ساحة الميلاد، ومصائد (الأنيميشن) غير المقلقة مهما اشتد جموحها.
لو تحوّلت الرواية إلى فيلم إذن فلن يكون أقل سحراً من “فريندز” أو “فاميلي جاي”.
ميدل ايست أونلاين